الخميس، 13 أغسطس 2020

شرح الدعاء (114)

شرح الدعاء (114)


{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .



2- {وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .



هذه أولى الدعوات التي ذكرها المؤلف حفظه اللَّه تعالى من دعوات

إبراهيم إمام الحنفاء، وقدوة الموحدين، وخليل الرحمن، الذي وصفه

ربنا ﻷ بأنه الجامع لخصال الخير كلّها:

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .



فهذه الدعوة المباركة جمعت عدة مطالب عظيمة لا غنى عنها للعبد

في أمور دينه ودنياه.



أولها: سؤال اللَّه تعالى القبول في الأعمال، والأقوال، ‏فقال وابنه إسماعيل

عليهما السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .



وقوله: ((و(يرفع): فعل مضارع، والمضارع للحاضر، أو للمستقبل،

ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال،

كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن

مشاهدة أمامهم)) .



ففيه تنبيه للعبد أن يستحضر هذه المعاني وكأنها أمامه، ‏من جليل الأعمال

من رفع القواعد، وكذلك دعاؤهما، ‏حتى يتأسى العبد بهذه المقاصد

والمطالب الجليلة من إخلاص العمل للَّه تعالى، وما يحمل الدعاء في طياته

من جميل المعاني من الخوف، والرجاء، ‏والرغبة، والرهبة.



{رَبَّنَا}: ((ربّ)) منادى حذفت منه (يا) النداء، وأصله: يا ربنا،

حذفت ((يا)) النداء للبداءة بالمدعو المنادى، وهو اللَّه جلّ شأنه،

أي كلّ واحد يقول بلسانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} .



فقد جاء في صحيح البخاري ((... ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي

مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، فَجَاءَ فَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ، فَقَالَ:

يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، قَالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ

أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، قَالَ: إِذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: فَقَامَا فَجَعَلَ

إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَيَقُولَانِ:

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .



انظر يا عبد اللَّه، وتأمّل في شأنهما: يقومان بأجلّ الأعمال وأرفعها بإذنٍ

من ربهما تعالى، وهما يسألان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، فتأمّل كيف كان حالهما

من الخوف والرجاء ألاّ يتقبل عملهما، فإذا كان هذا حال إمام الحنفاء،

وقدوة الموحدين، ‏فكيف بحالنا وتقصيرنا؟.



فعن وهيب بن الورد أنه قرأ:

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}،

ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن

لا يتقبل منك؟)) . وهذا كما حكى اللَّه تعالى عن حال المؤمنينَ الخُلَّص في

قوله تعالى: {وَالَّذينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} ، أي يعطون ما أعطوا من الصدقات

والنفقات والقربات: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} ، أي: خائفة

ألاّ يتقبل منهم، كما جاء في الحديث أن عائشة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا سألت

رسول ‏اللَّه r عن هذه الآية: ((أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ:

لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ،

وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ،

والتعرض لوصف الربوبية في دعائهم؛ لأن إجابة الدعاء من شأن

الربوبية وخصائصها لما فيها من معاني التربية والإصلاح والتدبير،

وقولهما: {تَقَبَّلْ مِنَّا}: ((القبول: أخذ الشيء والرضا به، فتقبّل اللَّه

سبحانه للعمل أن يتلقّاه بالرضى فيرضى عن فاعله، وإذا رضي اللَّه تعالى

عن فاعله، فلا بدّ أن يثيبه الثواب الذي وعده إيّاه)) : وقولهما:

{إنَّكَ أنْتَ ‏السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تعليل لطلب القبول، ومزيد استدعاء للإجابة.



والسميع والعليم اسمان للَّه تعالى من أسمائه الحسنى يدلاّن على صفة

السمع والعلم، أي: أنت السميع لأقوالنا التي من جملتها دعاؤنا العليم بما

في ضمائر نفوسنا من ‏الإذعان لك، والطاعة في القول والعمل،

ولا يخفى عليك شيء في قلوبنا.



((وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاص

دعائهما به تعالى، وانقطاع رجائهما عمّا سواه بالكلية)) .



((ولمّا كان العبد مهما كان، لابدّ أن يعتريه التقصير ويحتاج إلى التوبة

قالا: {وَتُبْ عَلَيْنَا}، قالاه هضماً لأنفسهما، وتعليماً للذرّية بعدهما

أن يلازموا هذا الطلب، والمقصد الجليل)) .



‏وقولهما: {إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: هذه الجملة كسابقتها

تعليل لطلب القبول، ومزيد استدعاء للإجابة.



‏التواب: أي أنك كثير التوبة على عبادك، فهو يقبل التوبة من عبده

كلما تكررت التوبة منه إلى ما لانهاية.



الرحيم: أي ذو الرحمة الشاملة للمؤمنين يوم القيامة، وهذا الاسم: يخصّ

به المؤمنين يوم القيامة، أما الرحمن فهي رحمته تبارك وتعالى الشاملة

لجميع الخلائق في الدنيا مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم.



الفوائد: ‏تضمنت هاتان الآيتان الكثير من الفوائد الجليلة منها:



1- أهمية القبول حيث إن مدار الأعمال الصالحة عليه، وذلك يقوم

على الإخلاص للَّه تعالى، والاتباع لما جاء به الشرع المطهر.



2- دلّت الآية: أنّ على العبد ملازمة سؤال اللَّه قبول أعماله بعد أدائه

لها، ومنها الدعاء، فقد كان هذا من هدي المصطفى : فإنه كان يستغفر

ثلاثاً بعد الصلاة، وكان يقول بعد صلاة الصبح: ((اللّهمَّ إنّي أسألك علماً

نافعاً، ‏ورزقاً طيباً، وعملاً مُتقبّلاً)) ، وكان يقول : ((ربّ تقبّل توبتي،

واغسل حوبتي، وأجب دعوتي)) ، وكان يستعيذ من عمل لا يُرفع:

((اللّهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن عمل لا يُرفع)) ، وغير ذلك.



3- ينبغي للعبد أن يكون في حال عبادته لربه ودعائه، ‏خائفاً راجياً،

كجناحي الطائر، فلا يغلّب الخوف، فيقع في القنوط، ولا يغلب الرجاء،

‏فيقع في الغرور، والأمن من مكر اللَّه تعالى.



4- التوسّل إلى اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته ما يناسب المطلوب والسؤال؛

فإن (السميع) مناسب في سماع دعائهما، و(العليم) مناسب للعلم بنياتهما،

وصدق تضرعهما، وكذلك (التواب الرحيم)..



5- ملازمة التواضع والإخبات للَّه تعالى في حال القيام

بطاعته ولو بأجلّ العبادات والمقامات.



6- أن الدعاء ملجأ ومقصد كل الأنبياء والمرسلين، ‏وأن العبد لا غنى له

عنه في كل أحواله الشرعية والدنيوية.



7- طرد الإعجاب بالنفس، وعدم الإدلال على اللَّه تعالى

بما قام من العمل، فإنّ ذلك مفسد للعمل.



8- أهمية سؤال اللَّه تبارك وتعالى الثبات على الإسلام،

((وهو يشمل على الاستسلام للَّه تعالى ظاهراً أو باطناً .



9- ((أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء، ‏لأنّ الذرية الصالحة

من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.



10- ((شدة افتقار الإنسان إلى ربه تعالى؛ حيث كرر كلمة ((ربنا))،

وأنه بحاجة إلى ربوبيته اللَّه تعالى الخاصة التي تقتضي عناية خاصة)) .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق