الأحد، 9 مايو 2021

غصون رمضانية ( 027 – 030 )

 
غصون رمضانية ( 027 – 030 )



عبدالله بن عبده نعمان


من دوحة رمضان الزكية ينبعث نسيمُ التغيير على النفوس

فيحملها على أُفُقِه الناعم في رحلة سعيدة تنتقل بها من الضيق إلى السعة،

ومن الإظلام إلى الإصباح، ومن وهْي الرُّوح وشيخوختها إلى ريعانها وعنفوانها،

ومن ذلِّ الأسر في يد النفس الأمارة بالسوء إلى فضاء النفس المطمئنة

التي تجد الحياة مبتسمة رغم العبوس، طليقة رغم القيد،

صحيحة رغم الجراح، آملة رغم الآلام.


نزل بالنفوس هذا الضيف الكريم لينزع عنها أغشية عمّها غبارُ الشقاء

والإعراض عن سلسبيل الجلاء، وليحلّيها حُلل التقوى

التي تجعلها تبدو في غاية الرونق والبهاء

يحمل رمضان بين ثناياه رياحَ التغيير فتمر بطيبها على الأرواح

والقلوب والعقول والجوارح فتدعوها إلى تغيير شامل من حياةٍ تسلّط

عليها النفور عن الطاعة، والقصور عن المسابقة، إلى حياة تصبح الطاعة

هي روحها التي بها تحيا، والمعصية منونها التي بها تموت،

وإن بقي الجسد يمشي على الأرض.


إن شهر رمضان موسم خصب للتغيير الحسن الذي ينشده الصادقون،

وينتظره المشتاقون، والناظر في أحوال رمضان يجد على جبينه

ملامح التغيير تعظ بصمت؛ لعل الناس أن يفهموا رسالة صمتها التي أبلغت

في الذكرى، فجدول الإنسان اليومي الحياتي وصلت إليه يد التغيير

عما كان قبل رمضان؛ فنوم الإنسان واستيقاظه، وأكله وإمساكه،

ومعاشرته وبعدُه، ودوامه الوظيفي وسكونه، وغير ذلك؛ كله قد تغيّر،

فهذا التغيير الدنيوي يحث على تغيير ديني، والتغيير في العادات يدعو

إلى التغيير في العبادات، من شر إلى خير، ومن كسل إلى نشاط،

ومن غفلة إلى يقظة.


ومن حِكم جعلِ الله تعالى واجبَ الصيام شهراً كاملاً:

أنه يساعد على حصول التغيير، وكسر حاجز العادة المطردة،

فيكون ذلك حاثّا للمسلم على الاستجابة لنداء التغيير،

ولكن في الجانب الروحي كما تم في الجانب البدني.


تعيش الروح غالبًا قبل رمضان في ناحية ضيقة فيشرق عليها شهر الصيام

بدعوتها إلى تغيير صالح ينقلها به إلى نواحٍ واسعة من أفراح الروح،

تحلّق فيها متلذذةً بأنواع من القربات كثرةً ووصفًا.


وتهب رياح التغيير الرمضاني إلى القلب ولعله كان أسيراً في أغلال

القسوة فتسعى إلى تحريره؛ ليكون سيّداً في عالم الرقة وسموِّ الإيمان،

حتى يصير من أهل هذه الآية:

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }


وتأتي إليه أسيفًا يحسو كؤوس الأوجاع فتهطل عليه بغيث السرور؛

لينطلق فرحًا بين خمائل الطاعات.

وتزور العقل ويكاد -أو يكون- غارقًا في أمواج شهوات الدنيا مفكراً كَلِفًا

مهمومًا بها وحدها فترمي إليه قوارب النجاة ليطفو عليها؛

ليفكر في مصالح الآخرة وأعمالها؛ حتى يصل إلى مرافئ السلامة لدنياه وآخرته.


وتمر بالجوارح فتجد لسانًا يفري في أعراض الأحياء والأموات،

وطَرْفًا يسرح في أودية المحارم، وأذنًا تسرق مقالات الألسنة

مما حرم عليها سرقته، ويداً تستطيل إلى مآثم الأخذ، ورجلاً ترسل الخطو

إلى مسالك الخطيئة، فتقول لها: قفي فالاتجاه غير صحيح؛

فأمامك منحدرات ومنعطفات تقود إلى الهاوية.


فمن تأمّل بعد هذا يلحظ أن رمضان مدرسة للتغيير العام الذي يحوي

منهجًا متكاملاً لتبديل الأحوال السيئة إلى أحوال حسنة في الواقع الإيماني

والتفكيري والسلوكي، فمن تخرج في هذه المدرسة ناجحًا،

وحمل نجاحه إلى ما بعد رمضان فهو الناجح حقًا،

وإلا ففي انتظامه في هذه المدرسة نظر؛

ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

( رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي،

ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له،

ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق