السبت، 29 أبريل 2017

مفسدات القلب

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد :
 
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :
 
( إلا وإن في الجسد مضغة , إذا صلحت صلح الجسد كله ،
وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب )
[ رواه البخاري ومسلم ]
 
وإذا كان ربنا تبارك وتعالى قد علق نجاة العبد يوم القيامة على سلامة القلب
 
كما قال :
 
{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
[ الشعراء : 88 – 89 ]
 
فحري بالعبد أن يجتنب كل ما من شأنه أن يفسد عليه قلبه ،
 
ولهذا ننقل لكم من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما يبين أعظم
وأهم أسباب فساد القلب : قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :
وأما مفسدات القلب الخمسة فهي التي أشار إليها من كثرة الخلطة ،
والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، والمنام .
 
فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب :
 
المفسد الأول : كثرة المخالطة : فأما ما تؤثره كثرة الخلطة :
فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود ،
ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما ، وضعفا ،
وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء ، وإضاعة مصالحه ،
والاشتغال عنها بهم وبأمورهم ، وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم .
 
فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة ؟
هذا ، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة ،
وعطلت من منحة ، وأحلت من رزية ، وأوقعت في بلية .
 
وهل آفة الناس إلا الناس ؟
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا ،
وقضاء وطر بعضهم من بعض ، تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة ،
ويعض المخلط عليها يديه ندما ،
 
كما قال تعالى :
 
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً {27}
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً {28}لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي }
[ الفرقان : 27 – 29 ]
 
وقال تعالى :
 
{ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }
[ الزخرف : 67 ]
 
وقال خليله إبراهيم لقومه :
 
{إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضاً
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ }
[ العنكبوت : 25 ]
 
وهذا شأن كل مشتركين في غرض
يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله ، فإذا انقطع ذلك الغرض ،
أعقب ندامة وحزناً وألماً وانقلبت تلك المودة بغضاً ولعنة ،
وذماً من بعضهم لبعض .
 
والضابط النافع في أمر الخلطة :
أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة ، والأعياد والحج ،
وتعلم العلم ، والجهاد ، والنصيحة ، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات .
 
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه اعتزالهم :
فالحذر الحذر أن يوافقهم ، وليصبر على أذاهم ،
فإنهم لابد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر .
ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له ، وتعظيم وثناء عليه منهم ، ومن المؤمنين ،
ومن رب العالمين ، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ، ومقت ، وذم منهم ،
ومن المؤمنين ، ومن رب العالمين . فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة ،
وأحمد مآلا . وان دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات ،
فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه .
 
المفسد الثاني من مفسدات القلب: ركوبه بحر التمني:
وهو بحر لا ساحل له . وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم ،
كما قيل : إن المنى رأس أموال المفاليس .
فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة ، والخيالات الباطلة ،
تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة ،
وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية ،
ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية ،
بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية .
 
وكل بحسب حاله : من متمن للقدرة والسلطان ،
وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان ، أو للأموال والأثمان ،
أو للنسوان والمردان ،
فيمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه وقد فاز بوصولها والتذ بالظفر بها ،
فبينا هو على هذا الحال ، إذ استيقظ فإذا يده والحصير !! .
وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان ،
والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره .
فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خداع وغرور .
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم متمني الخير ،
وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله .
 
المفسد الثالث من مفسدات القلب : التعلق بغير الله تبارك وتعالى :
وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق ، فليس عليه أضر من ذلك ،
ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه ،
فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به . وخذله من جهة ما تعلق به،
وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره ، والتفاته إلى سواه .
فلا على نصيبه من الله حصل ، ولا إلى ما أمَّله ممن تعلق به وصل .
 
قال الله تعالى :
 
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً {81}
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً }
[ مريم : 81 – 82 ]
 
وقال تعالى :
 
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ }
[ يس : 74 – 75 ]
 
فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله .
فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به،
وهو معرض للزوال والفوات . ومثل المتعلق بغير الله :
كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت ، أوهن البيوت.
وبالجملة : فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها : التعلق بغير الله .
ولصاحبه الذم والخذلان ،
 
كما قال تعالى :
 
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }
[ الإسراء : 22 ]
 
مذموما لا حامد لك ، مخذولا لا ناصر لك .
إذ قد يكون بعض الناس مقهوراً محموداً كالذي قهر بباطل ،
وقد يكون مذموماً منصوراً كالذي قهر وتسلط بباطل ،
وقد يكون محموداً منصوراً كالذي تمكن وملك بحق .
والمشرك المتعلق بغير الله قسمه أردأ الأقسام الأربعة ،
لا محمود ولا منصور .
 
المفسد الرابع من مفسدات القلب : الطعام :
والمفسد له من ذلك نوعان : أحدهما : ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات .
 
وهي نوعان : محرمات لحق الله :
كالميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وذي الناب من السباع والمخلب من الطير .
ومحرمات لحق العباد : كالمسروق والمغصوب والمنهوب ،
وما أخذ بغير رضا صاحبه ، إما قهرا وإما حياء وتذمما .
 
والثاني : ما يفسده بقدره وتعدي حده ، كالإسراف في الحلال ،
والشبع المفرط ، فإنه يثقله عن الطاعات ،
ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها ،
فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها ، والتأذي بثقلها ،
وقوى عليه مواد الشهوة ، وطرق مجاري الشيطان ووسعها ،
فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم . فالصوم يضيق مجاريه ويسد طرقه ،
والشبع يطرقها ويوسعها .
ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا.
 
وفي الحديث المشهور:
 
( ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه .
فإن كان لابد فاعلا فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه )
[ رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه الألباني ]
 
المفسد الخامس : كثرة النوم :
فإنه يميت القلب، ويثقل البدن ، ويضيع الوقت ، ويورث كثرة الغفلة والكسل
ومنه المكروه جدا ، ومنه الضار غير النافع للبدن .
 
وأنفع النوم : ما كان عند شدة الحاجة إليه .
ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخرة ، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه .
وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه ، وكثر ضرره ، ولاسيما نوم العصر .
والنوم أول النهار إلا لسهران .
 
ومن المكروه عندهم : النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس ؟
فإنه وقت غنيمة ، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة
حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير
ذلك الوقت حتى تطلع الشمس ، فإنه أول النهار ومفتاحه ،
ووقت نزول الأرزاق ، وحصول القسم ، وحلول البركة .
ومنه ينشأ النهار ، وينسحب حكم جميعه علي حكم تلك الحصة .
فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر .
 
بالجملة فأعدل النوم وأنفعه : نوم نصف الليل الأول ، وسدسه الأخير ،
وهو مقدار ثماني ساعات . وهذا أعدل النوم عند الأطباء ،
وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه .
ومن النوم الذي لا ينفع أيضا : النوم أول الليل ،
عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهه . فهو مكروه شرعا وطبعا .
 
نسأل الله تعالى
أن يصلح قلوبنا وأن يجنبنا أسباب الردى ، وصلى الله وسلم
وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق