الاثنين، 22 أكتوبر 2018

التغلب على الإعاقة (1)

التغلب على الإعاقة (1)

أ. عائشة الحكمي

السؤال
أختي عائشة، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، وأشكرك على ردِّك
القَيِّم لي بخصوص كيف يعيش المعاق، ها أنا أكتب إليك من جديد،
وهذه المرة بصفة خاصة، رُبَّما كتبتُ في المرة السابقة وأنا أتألَّم كثيرًا،
ولكن هذا حال المعاقين، أنا فتاة كنتُ أعمل باحثة نفسية، وأُصبت
بمرض أقعدني على كُرسي متحرِّك، وتركت العمل وأصبحت في البيت،
هذا قدر الله، وإني والله راضية بما كتبَه الله لي ومؤمنة، وأعتبرها
مِنَّة من الله - سبحانه - وليس هَمًّا، وإني فتاة نقيَّة، والكل يَصِفني
بأني كالملاك؛ أحب الناس، وأقدِّم النصيحة والمساعدة بكل رحابة
صدْرٍ، ودائمًا أبتسمُ، وإني أتحدث معهم بعُمقٍ، وليس بسطحيَّة.

ماذا أفعل؟ لَدَيّ طموح كبير وطاقة كبيرة بداخلي، أحب أن أكون شيئًا
مهمًّا في الحياة، أعيش في منطقة ريفيَّة لا يوجد بها فُرص عملٍ
خاصة للمعاقين، أحس بألَمٍ كبير، حتى الأصدقاء لا أعرف كيف أتعامل معهم؛
منهم التي تتحدث عن زوجها وأولادها، والذي يتحدث عن زوجته
وأولاده وطموحاته، أحس كأني ليس لَدَيّ شيء أتحدث عنه، أعلم
أن كلَّ إنسان لَدَيه مشكلاته وهمومه، ولكن بداخلي شيء يتألَّم،
أخجل من نفسي، عاجزة أمام الظروف، ماذا أفعل؟

دائمًا أدعو الله أن يكون في عوني، هو عالِم بحالي، وبنيَّتي،
تعوَّدت على العمل والعطاء، لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من الظالمين، أسأل الله
أن يفرِّج هَمي، أنا راضية بقضاء الله، ولكن أريد أن أعيش حسب
إمكاناتي الصِّحية، هل هذا اعتراض أو يأْس؟

كتبت لكِ أحتاج منك أن تفهميني، أتألَّم، ولا أُظْهِر آلامي، أكتمها بداخلي،
لا أحد يفهمني، وشكرًا لكِ على اهتمامك.
الجواب
أختي الغالية, فرَّج الله هَمَّكِ، وفرَّح قلبكِ.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا شكَّ أن المقارنة بين الماضي والحاضر، بين ما كنتِ عليه
وما قدره الله عليكِ - يملأ القلب حزنًا، ويُورِث التفكير هَمًّا وغَمًّا،
ويجعل عقارب الساعة كأنما تمشي على نياط القلب لا على خطِّ الزمن،
وعلى العاقل ألاَّ يحزن على شيءٍ فاتَه من الدنيا أو تولَّى،
وأن ينزلَ ما أصابه من ذلك ثم انقطعَ عنه منزلةَ ما لَم يصب،
وينزل ما طلبَ من ذلك ثم لَم يُدركه منزلة ما لَم يطلب ؛
كما قال أسامة بن منقذ الشيزري:

لاَ تَأْسَفَنَّ لِذَاهِبٍ أَوْ فَائِتٍ
يُرْجَى وَلاَ تُتْبِعْهُ زَفْرَةَ نَادِمِ
وَاصْبِرْ عَلَى الْحَدَثَانِ صَبْرَ مُسَلِّمٍ
مُتَيَقِّنٍ أَنْ لَيْسَ مِنْهُ بِسَالِمِ
فَغَضَارَةُ الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلٍ
وَالْعَيْشُ فِيهَا مِثْلُ حُلْمِ النَّائِمِ
وَالدَّهْرُ يَمْنَحُ ثُمَّ يَمْنَعُ نَزْرَ مَا
أَعْطَى وَيَبْخَلُ بِالسُّرُورِ الدَّائِمِ
وَالنَّاسُ مَنْ لَمْ يَصْطَبِرْ لِمُصَابِهِ
صَبْرَ الرِّضَا صَبَرَ اصْطِبَارَ الرَّاغِمِ

فاصبري صبْرَ الرضا، فكل ما يأتي من الله الجميل جميل، وما قدَّر الله
عليكِ ذلك إلاَّ ليمتحن صدق إيمانكِ، وليمنحكِ الدليل الذي يسهل عليكِ
بلوغ الجنة؛
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }
[آل عمران: 142].

فصبر جميل، وعسى الله أن يعوضكِ خيرًا مما أخذ منكِ، وألاَّ يحرمكِ أجْرَ الصبر،
وأجر ما كنتِ تقومين به قبل أن يحبسكِ العذر، إذ ما دامت نيَّتكِ
خالصةً لله - سبحانه وتعالى - فالأجر على الله مستمر وباقٍ،
حتى بُعَيد انقطاعكِ عن العمل، ألَم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
لصحابته الكِرام - رضوان الله عنهم - في غزوة تبوك:
( إن بالمدينة أقوامًا، ما سرتُم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلاَّ كانوا معكم )،
قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟! قال :
( وهم بالمدينة؛ حبَسهم العُذر )؛
رواه البخاري.

إن الشعور بالعجز شعور مَريرٌ، لكنَّ الاستسلام لهذا الشعور أشدُّ مرارة
على النفس من العجز نفسه، ومن يرغب في العيش في الحياة بشرف،
لا يتحطَّم أمام تصاريف القدر، بل يعمل حتى آخر رمقٍ في حياته،
فالإعاقة الحقيقية ليستْ في تعطُّل وظائف الحواس، بل في تعطُّل
عمل الإرادة والشجاعة والأمل.

مثل هذه الأحاسيس والمشاعر السلبية التي تُثيرينها في نفسكِ، من
الممكن أن تسبِّب للعقل نسيانًا يُسَميه العلماء أسكاتوما،
وكما يقول د. إبراهيم الفقي في كتابه: كيف تتحكم في شعورك وأحاسيسك؟ :
تكمن خطورة الأسكاتوما في أنَّ الإنسان قد يعطي للعقل أمرًا مباشرًا
بأنه غير سعيد، ومن ثَمَّ يلغي له العقل كلَّ شيء يتعلق بالسعادة،
حتى يشعر بالحزن؛ وذلك لأن العقل البشري لا يستطيع التركيز
إلاَّ على معلومة واحدة في وقت واحد، فحينما يُعْطى العقل أمرًا
مباشرًا بخصوص موضوع معين، فإنه يلغي ما سواه؛
حتى يتمكَّن من التركيز على أمر
واحد بدقة .

فحذار من الاستسلام لمثل هذه المشاعر والأحاسيس القاتلة،
ولا يكن كرسيكِ المتحرِّك أفضل إرادة وعزمًا منكِ! فعلى الرغم من كونه مجرَّد كرسي
صغير، إلاَّ أنه متحرِّك، لَم يعجز عن الحركة والتنقُّل والإفادة!

ولكِ في الشيخ الشهيد أحمد ياسين - رحمه الله رحمة واسعة –
أُسوة حسنة، ففي سنِّ السادسة عشرة تعرَّض الشيخ الشهيد إلى حادث
خلال مزاولته للرياضة على شاطئ غزة، نتَج عنه إصابته بالشلل الكامل،
ولكن إرادته بقِيَت في كامل قواها، وازدادتْ مع الرضا بالقدر والإيمان بالله،
فواصَل الشيخ - رحمه الله - تعليمه إلى أن تخرَّج في جامعة الأزهر في مصر،
ثم عمل مُدَرِّسًا للغة العربية والتربية الإسلامية، ولَم يكتفِ بذلك،
بل ناضَل وجاهَد من أجْل تحرير فلسطين من أيدي الغاصبين،
فأسَّس حركة المقاومة الإسلامية حماس ، واستمرَّتْ هذه الحركة
بكل حماسها حتى بعد استشهاد الشيخ الشهيد - رحمه الله تعالى.

لقد عاش هذا الرجل مشلولاً شللاً كاملاً، ولكنَّه عاش في هذه الأمة
رجلاً بأُمة، فرحمه الله رحمةً واسعة، وبلَّغَه منازلَ الشهداء، اللهم آمين.

ثَمَّة مهارة مهمة تفتقرين إليها، وهي مهارة قنْص الفُرص وصيْد الخير،
والله - سبحانه - يُعاقب مَن فتح له بابًا من الخير فلم ينتهزه، بأن يَحول
بين قلبه وإرادته، فلا يُمكنه بعْدُ من إرادته عقوبةً له، فمن لَم يَستَجِب
لله ورسوله إذا دعاه، حالَ بينه وبين قلبه وإرادته،
فلا يُمكنه الاستجابة بعد ذلك؛ قال - تعالى -:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ }
[الأنفال: 24] ؛
والكلام لابن القَيِّم - رحمه الله تعالى.
يتبع غداً - منقول للفائدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق