الأربعاء، 19 مايو 2021

موسوعة المؤرخين (27)

موسوعة المؤرخين (27)

شمس الدين السخاوي (الجزء الأول)

يمثل شمس الدين السخاوي شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر

الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية

زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال

تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير

الإسلامي، كما ملأت شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن،

فالسخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع

الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) واختتمت بها مصر الإسلامية

حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين.



نسبه ونشأته:

هو الشيخ الإمام، العالم العلامة المسند، الحافظ المتقن شمس الدين

أبو الخير السخاوي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان،

السخاوي الأصل القاهري الشافعي. ولد بمدينة القاهرة، بحارة بهاء الدين،

في ربيع الأول سنة831هـ / 1428م في أسرة أصلها من بلدة سخا من

أعمال الغربية، واستقرت في القاهرة قبل ذلك بجيلين. ولما بلغ الرابعة

من عمره تحولت أسرته إلى منزل جديد في نفس الحي اشتراه أبوه؛ وكان

موقعه بجوار دار علامة العصر الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ وكان لهذا

الجوار أكبر أثر في حياة السخاوي، كما سنرى.



ابتدأ تحصيل العلوم الشرعية في سنٍّ مبكرة، فحفظ القرآن وجوَّده، ثم حفظ

كثيرًا من المتون في مختلف الفنون، وقابل الشيوخ وأهل العلم في عصره

وأخذ عنهم، وأخذ عن جماعة لا يحصون يزيدون على أربعمائة نفس.فقد

أنفق السخاوي بضعة أعوام في المكتب وحفظ القرآن؛ ثم أخذ يطوف بأشياخ

العصر يتلقى عنهم مختلف العلوم والفنون؛ ودرس النحو والعروض واللغة

والفقه والحساب والميقات والأصول والبيان والتفسير والمنطق؛ وهنا يعدد

لنا السخاوي ثبت أساتذته وما أخذه عن كل منهم، وما درسه من مختلف

الكتب؛ وتجلت مواهبه ومقدرته بسرعة مدهشة؛ وأجاز له الكثيرون

من شيوخه، بل أجازوا له الإفتاء ولما يبلغ العشرين بعد.



ابن حجر شيخ السخاوي الأول:

وقد كان ابن حجر في مقدمة أساتذته؛ وكان ذلك الجوار الذي رتبته ظروف

الحياة مبعث هذه الصلة الوثيقة التي استمرت مدى الحياة بين الأستاذ

وتلميذه، والتي بثت غير بعيد إلى نفس الفتى نوعًا من العبادة الروحية لهذا

الذي كان يعتبر يومئذ إمام الأئمة وقطب العلماء والباحثين. والواقع

أن ابن حجر كان يتبوأ يومئذ مركز الزاعمة العلمية في مصر الإسلامية،

وكان في ذروة نضجه ومجده، وقد انتهت إليه الرياسة في معظم علوم

العصر، ولا سيما الحديث والشريعة.



وكان بدء اتصال السخاوي بأستاذه في سنة 838هـ، أي وهو طفل لم يجاوز

الثامنة؛ وكان يذهب مع أبيه ليلًا إلى مجالس الشيخ فيستمع إلى دروسه في

الحديث. ويصف لنا السخاوي علاقته بأستاذه في عبارات مؤثرة تنم عما كان

لهذه العلاقة من عظيم الأثر في تكوينه فيقول متحدثًا عن نفسه: "وقبل ذلك

كله سمع مع والده ليلًا الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب

ابن حجر، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين،

وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن.

وأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه .. وداوم

الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علمًا جمًا، واختص به كثيرًا بحيث كان

من أكثر الآخذين عنه؛ وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما

يقرأ عليه إلا النادر .. وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدّة حرصه

على ذلك فكان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله؛ يأمره

للمجيء للقراءة".



وهنا يفيض السخاوي في ذكر الكتب والمتون التي قرأها ودرسها على شيخه

ابن حجر، سواء من تصنيفه أو تصنيف غيره، ومعظمها في الحديث، ودرس

عليه أيضًا التاريخ والتراجم؛ ودرس في الوقت نفسه على كثير من شيوخ

العصر؛ ويعدد لنا السخاوي كثيرًا من شيوخه، ويقول لنا إنهم بلغوا أكثر

من أربعمائة؛ بيد أن ابن حجر كان دائمًا إمامه وشيخه المفضل، وقد أذن له

غير بعيد في الإقراء والإفادة والتصنيف؛ ويقول لنا السخاوي إنه لم ينفك

عن ملازمة أستاذه، ولا عدل له بملازمة غيره من علماء الفنون خوفًا على

نقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية بل ولا حج إلا بعد وفاته؛ لكنه حمل

عن شيوخ مصر الواردين إليها كثيرًا، وفي الأوقات التي لا تعارض وأوقاته

سيما حين اشتغاله بالقضاء وتوابعه. وقد لبثت هذه العلاقة الوثيقة بين

التلميذ وشيخه حتى توفى ابن حجر في أواخر سنة 852هـ.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق