الجمعة، 21 مايو 2021

موسوعة المؤرخين (29)

 موسوعة المؤرخين (29)


شمس الدين السخاوي (الجزء الثالث)
مما قاله العلماء في حق السخاوي:
ذكر الكثير من العلماء ممن تعرضوا لترجمة الحافظ السخاوي العديد من
مناقبه مما يبين علو منزلته ومكانته، فهذا ابن العماد الحنبلي يقول فيه:
"وانتهى إليه علم الجرح والتعديل، حتى قيل: لم يكن بعد الذهبي أحد سلك
مسلكه". وبعد أن ذكر الشوكاني ترجمته في البدر الطالع قال: "وَبِالْجُمْلَةِ
فَهُوَ من الْأَئِمَّة الأكابر حَتَّى قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ جَار الله بن فَهد فِيمَا كتبه عقب
تَرْجَمَة صَاحب التَّرْجَمَة لنَفسِهِ فِي الضَّوْء اللامع ما نصه: قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ
جَار الله بن فَهد المكي إن شَيخنَا صَاحب التَّرْجَمَة حقيق بِمَا ذكره لنَفسِهِ
من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة، وَلَقَد وَالله الْعَظِيم لم أر فِي الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين مثله ..
وَلَا أعلم الْآن من يعرف عُلُوم الحَدِيث مثله وَلَا أَكثر تصنيفا وَلَا أحسن،
وَكَذَلِكَ أَخذهَا عَنهُ عُلَمَاء الْآفَاق من الْمَشَايِخ والطلبة والرفاق، وَله الْيَد
الطُّولى فِي الْمعرفَة بأسماء الرِّجَال وأحوال الروَاة وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل وَإِلَيْهِ
يشار فِي ذَلِك، وَلَقَد قَالَ بعض الْعلمَاء لم يَأْتِ بعد الْحَافِظ الذهبى مثله سلك
هَذَا الْمسك، وَبعده مَاتَ فن الحَدِيث وأسف النَّاس على فَقده، وَلم يخلف
بعده مثله".

ومما قاله الشوكاني كذلك: "ولو لم يكن لصَاحب الترجمة من التصانيف
إلا الضوء اللامع لكان أعظم دليل على إمامته".

مؤلفات السخاوي الحديثية:
وللسخاوي تراث حافل ينم عن غزير مادته ونشاطه؛ ولقد تلقينا منه الكثير،
وتلقينا بالأخص أهمه وأقيمه. ويعني السخاوي في ترجمة نفسه بتعداد
رسائله ومؤلفاته؛ ويستغرق تعدادها عدة صفحات من ترجمته؛ ويضم
هذا الثبت الحافل كتبًا ورسائل في عدة فنون مختلفة؛ ولكنا نستطيع بوجه
عام أن نقسم آثاره إلى قسمين: قسم الحديث، وقسم التاريخ.

وقد كان السخاوي كما رأينا محدثًا كبيرًا، انتهى إليه علم الحديث في عصره؛
بيد أنه كان أيضًا مؤرخًا بارعًا، ونقادة لايجاري؛ والجمع بين الحديث
والتاريخ خاصة لكثير من أقطاب المؤرخين المسلمين مثل كتاب السيرة،
والطبري، والذهبي؛ وعلم الحديث بما يحتويه من قواعد الإسناد وتمحيص
الرواية، والجرح والتعديل، خير معوان للمؤرخ الناقد على تحري الحقائق؛
وهكذا كان السخاوي محدثًا ومؤرخًا؛ وكانت براعته النقدية في التاريخ ترجع
في كثير من الوجوه إلى براعته في الجرح والتعديل كمحدث؛ وهذه الصبغة
النقدية البارزة هي التي تسبغ على آثاره التاريخية قوتها وطرافتها.

ويحدثنا السخاوي في ترجمته بأنه شرع في التأليف (قبل الخمسين)؛
ولكن هنالك ما يدل على أنه وضع بعض التصانيف قبل سنة 870هـ، أعني
وهو في نحو الأربعين من عمره؛ فهو يحدثنا أنه لما حج للمرة الأولى سنة
870هـ، قرأ بعض تصانيفه في مكة، وإذا فهو قد بدأ التأليف في سن
متقدمة؛ بيد أنه أنفق شبابه في استيعاب النصوص والمراجع، ونزل ميدان
التأليف مزودًا بمادة غزيرة؛ ولبث مدى الثلاثين عامًا التالية يخرج الكتب
والرسائل تباعًا، ولم ينقطع عن الكتابة حتى أعوام حياته الأخيرة.

وبدأ السخاوي التأليف في ميدان الحديث، فوضع فيه عدة كتب ورسائل
يعنى بتعدادها في ترجمته، ولكنا لم نتلق منها سوى القليل؛ وأشهرها كتاب
(المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة)، وهو من كتب الحديث المتداولة،
ومنها (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) و (الغاية في شرح الهداية)
و (الأخبار المكللة في الأحاديث المسلسلة) و (شرح الشمائل النبوية للترمذي)
و (التحفة المنيفة فيما وقع من حديث أبي حنيفة)، وعدة كتب
ورسائل أخرى في شرح متون الحديث، وعدة حواش وذيول لبعض كتب
الحديث المعتبرة يذكرها كلها في ترجمته، ولا يتسع هذا المقام لذكرها.

وكتب السخاوي في هذه الفترة الأولى أيضًا عدة رسائل عن رحلاته
المختلفة؛ منها الرحلة السكندرية وتراجمها؛ الرحلة الحلبية وتراجمها؛
الرحلة المكية؛ والثبت المصري؛ وفيها يصف تجواله ودراساته في تلك
الأنحاء؛ ووضع كتابًا في تراجم شيوخه وأساتذته اسمه
(بغية الراوي فيمن أخذ عنه السخاوي).

مؤلفات السخاوي التاريخية:
على أن أهم ما في تراث السخاوي هو مجهوده التاريخي والأدبي، ففيه
يرتفع السخاوي إلى ذروة القوة، وفيه تبدو شخصيته في أبرز خواصها
ومواهبها؛ وقد انتهت إلينا نخبة من هذا التراث القيم.

التبر المسبوك في ذيل السلوك:
ومن الصعب أن نتتبع الترتيب الزمني في استعراض هذه الآثار، ولكن يلوح
لنا أن السخاوي قد استهل مجهوده التاريخي بوضع كتاب (التبر المسبوك
في ذيل السلوك) والسلوك الذي وضع هذا الكتاب ذيلًا له هو كتاب (السلوك
في دول الملوك) لتلقي الدين المقريزي، وقد تناول فيه تاريخ دول المماليك
المصرية حتى سنة844هـ؛ وتناول السخاوي في كتابه تاريخ مصر
الإسلامية من سنة 845 - 857هـ؛ وكتبه كما يقرر في مقدمته نزولًا
على رغبة الداوادار يشبك المهدي وزير السلطان الظاهر خشقدم؛ وعني
السخاوي بتدوين حوادث هذه الفترة المعاصرة بإسهاب، وذيل كل عام
بوفيات أعيانه، واتبع فيه طريقة الترتيب الزمني.

ذيل رفع الأصر:
وكتب السخاوي أيضًا ذيلًا لكتاب شيخه ابن حجر (رفع الأصر عن قضاة
مصر) وهو الذي يتناول فيه تراجم القضاة المصريين حتى عصره، وسماه
(ذيل رفع الأصر)، وفيه يتناول تراجم القضاة المصريين حيث وقف
شيخه ابن حجر.

الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع:
وأعظم آثار السخاوي بلا ريب هو كتابه الضخم (الضوء اللامع في أعيان
القرن التاسع)، وهو موسوعة حافلة تقع في عدة مجلدات وينم عنوانها
عن موضوعها، ويبسط لنا السخاوي موضوع كتابه في ديباجته على النحو
الآتي: "فهذا كتاب جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى
وثمانمائة، ختم بالحسنى، من سائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة
والأدباء والشعراء، والخلفاء والملوك والأمراء، والمباشرين والوزراء،
مصريًا كان أو شاميًا، حجازيًا أو يمنيًا، روميًا أو هنديًا، مشرقيًا أو مغربيًا،
بل وذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة".

وقد هيأت حياة السخاوي نفسه وتجواله في مصر والشام والحجاز؛ ولقاؤه
لمئات العلماء والأدباء في عواصم هذه الأقطار، وما قيده عنهم في مختلف
رحلاته، مادة حسنة لكتابة المستقبل. وأنفق السخاوي بلا ريب أعوامًا طويلة
في إعداد مواده وتنظيمها واستكمالها؛ والظاهر أنه لم يبدأ في كتابة معجمه
إلا في أواخر القرن التاسع حوالي 890هـ واستمر في الكتابة فيه حتى سنة
897هـ أو 898هـ؛ يدل على ذلك أنه يصل في ترجمة نفسه حوادث حياته
حتى سنة 897هـ، وأنه يذكر ضمن كتبه (كتاب التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ)
وقد كتبه حسبما يقرر في خاتمته بمكة سنة 897هـ؛ هذا فضلًا عن أنه
يترجم لكثيرين توفوا سنة 897هـ.

ويمتاز (الضوء اللامع) بقوة فائقة في التصوير ليس لها نظير في كتب
التراجم الإسلامية، ويمتاز بالأخص بروحه النقدية اللاذعة؛ وهنا يبدو
السخاوي في أعظم خواصه وكفاياته الأديبة نقاده لا يجارى؛ بيد أن هذه
النزعة النقدية تحمله بعيدًا في مواطن كثيرة، فينزع عندئذ إلى التجريح
والهدم بقسوة، ويطبع نقده تحامل بين؛ وقد ترجم السخاوي كثيرًا من أقطاب
العصر، ولكن أحدًا منهم - إلا شيخه ابن حجر - لم ينج من تجريحه اللاذع؛
وتراجم المقريزي وأبن خلدون وأبن تغري بردى والسيوطي أمثلة
واضحة لهذه النزعة الهدامة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق