السبت، 30 مارس 2019

معاناتي مع فقد البصر (2)

معاناتي مع فقد البصر (2)

أيتها العزيزة،

لن أسردَ عليكِ الآيات والأحاديث والآثار التي تتحدَّث حول فَضْل

الصبر على البلاء، والحكمة منه، وأجره عند الله؛ فما أحسب إلا أنكِ

قد اكتفيتِ منها، وأخذتِ ما يَرْوِي ظمأكِ، ويُشبع جوعكِ، ولكن ألستِ

توقنين أن الذي ابتلاكِ بهذا المرض وقدَّره عليكِ هو أرحم

بكِ من والدتكِ؛ كما ورد في الحديث الصحيح؟!

قد يكون ذلك غيرَ منطقي للبعض، وغيرَ واضح لآخرين،

وغير مفهومٍ لغيرهم، ولكننا كمؤمنين نُوقن أنه صلى الله عليه وسلم

لا يَنطِق عن الهوى؛ فلا بد إذًا مِن وجود الرحمة؛ سواء خفيتْ علينا،

أو تَجَلَّتْ لبعضنا، والرحمةُ لا تعني بالضرورة المعافاة مِن كلِّ بلاء،

والسلامة من كل شر، فهذا قانونُ الكون، لا يتغيَّر لأجل بَشَرٍ،

ولو كان ذلك ممكنًا لكان أولى الناس به رُسُل الله صلى الله عليهم وسلم!

ولكنها سُنن كونية قدَّرها الله على جميع العباد؛ تقيّهم وفاجرهم،

وجَعَلَها الله مِحَنًا يَختبر بها صبرَ العباد؛ فيكافئ الصابر المحتسب،

ويُجازي المتسخِّط المتكبِّر.

لقد وَقَعَ البلاء، ولا حيلة لبَشَرٍ في دفعه، والعاجزُ مَن يقف أمام بلائه يندب حظَّه،

ويَبكي قدَرَه، وينظر لِمَا في أيدي الناس مِن الفضل؛ فتزيد حسراته،

وتتعاظم هُمومه، وتتوسَّع دائرةُ أحزانه، ولنَسأل أنفسنا حينها: ماذا كسبنا؟

انظري حولكِ بُنيتي بعينكِ التي عافاها الله، وتأمَّلي كم مِن الناس

قد ذَهَبَتْ عنهما العينان معًا بكلِّ ما فيها، وانتهتْ رحلة الإبصار،

ورحلتْ عن عالمهم إلى غير رجعة! وقد بقيتْ لكِ تلك العين؛

لتُذَكِّركِ بفضل الله عليكِ، وأن البلاء لم يكنْ في العينين فتزول الرؤيا كلها!

تتعجَّبين مِن والدكِ الذي يَطْلُب منكِ الاستمرار في دراستكِ،

رغم ما أَلَمَّ بكِ مِن مصابٍ جَللٍ ومرض عظيم، وأقول لكِ:

لقد أعادتني رسالتُكِ إلى خمسة أعوام أو يزيد، حين تلقيتُ رسالةً

مِن شاب ابتُلي بفَقْدِ البصر تمامًا وهو طفل، وكان يدرس الماجستير،

ولم تكن رسالتُه حول بلائه أو مرضه، الذي لم يكن يُسبِّب له مشكلةً،

أو يلهيه عن المُضِيِّ في عمله بتفاؤلٍ وأملٍ، ويُحقِّق مِن النجاح

ما جَعَلَهُ يَتقدَّم للزواج، ويُقبل على الحياة كما لم يفعل المُبصر!

بُنيتي، الحياةُ مليئةٌ بالمِحَن، وانظري إنْ شئتِ حولكِ لتُشاهدي

أصحاب البلاءات كيف يتخطَّون المِحَن، ويواجهونها بالرضا،

ويُقابلونها بالعمل والجد والنجاح الذي يُنسيهم بلاءهم، ويُهوِّن عليهم ألَمَهم.

لن تتوقف الحياةُ على عينٍ فُقِدَت بإرادة الله، ولن تنتهيَ بسبب نعمةٍ

نقص منها نصفها، وبقي النصف الآخر، ولن ينتهي الحلمُ برؤيةٍ

تَقَلَّصَتْ وبقي جزءٌ منها يستطيع أنْ يرى النور بإذن الله،

ويُبصر الجمال حوله، ويتأمَّل في سائر نِعَم الله!

أُؤَيِّد والدكِ وأهلكِ في فكرةِ مُواصَلة الدراسة، والسَّيْر قُدمًا في الحياة،

والتوكل على الله، وأيْقِني أنَّ الله قد ادَّخر لكِ بها عنده ما هو خير

مِن تلك العين، التي هي واحدة مِن نِعَمٍ كثيرةٍ لا نُحصيها عددًا،

وتذكَّري قول الله تعالى:

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }

[إبراهيم: 7].

فإن لم تَجِدي بُدًّا مِن التواصُل مع بعض المُختَصِّين النفسيين،

فلْتَطْلُبي ذلك مِن باب الاستِعانة بالله والأَخْذ بالأسباب؛

ولتُوضِّحي ذلك لوالدكِ بهدوءٍ، دون تمسُّك بالرأي؛

فإنَّ العبدَ ضعيفٌ بنفسه، قويٌّ بإخوانه، وهذا لا يعني بالضرورة

أنكِ عاجزة، وقد يقبل ذلك منكِ حين يرى فيكِ

مِن الهمَّة والعزيمة ما يُثبت صِدْقكِ.

أختم حديثي معكِ - وما كنتُ أحب أنْ أختمه - بهذا الحديث الشافي

الكافي لكل مُبتلًى بعينيه؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه،

قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ الله تعالى قال:

( إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتَيْه فصَبَر؛ عوَّضْتُه منهما الجنة ).

والمقصودُ: العينان، فهل لكِ بُنيتي أن تشتريَ نصف الجنة بعين واحدة؟

أسأل الله تعالى أن يملأَ قلبكِ رضًا، وأن يجمعَ لكِ بين

الأجر والعافية، إنه سميع قريب مُجيب

والله الموفِّق، وهو الهادي إلى سواء السبيل




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق