الأحد، 2 مايو 2021

غصون رمضانية ( 020 – 030 )

 

غصون رمضانية ( 020 – 030 )

عبدالله بن عبده نعمان

في زحمة الحياة، وفي ضجيجها المستمر يتفرق القلب، وتغمره القسوة،

وتتوزعه متاهات الهموم المعيشية، فتعلوه الظلمات، وتميله الشهوات،

ويلجّ في وادي الغفلة السحيق، فيصير مريضًا، أو قاسيًا، أو مقفلاً،

أو مطبوعًا عليه، أو ميتًا. وصاحبه إذا لم يتداركه هوى به إلى الهاوية،

وندم على تركه علاجَه حتى فات الأوان.

لكن المؤمن الحصيف يظل حارسًا لقلبه، مرابطًا على تخومه، مترصدًا لعدوه،

يتفقد أحواله فينة بعد فينة، ويترقب الفرص التي تُغسل فيها القلوب،

وتُزاح عنها حُجب الغفلة، وترتفع فيها درجات الإيمان،

وتستوي في مغانيها سوقُ اليقين، وتتفرع في رحابها غصون الحياة،

فتجني الجوارحُ ثمرَ العمل الشّهي، واستقامةَ الحال يوم أن استقام سيدُ الأعضاء.

وفي هبوب رمضان الخير تَنسم نسمةٌ زكية تحمل فرصةً عظيمة

يُلَمّ فيها شعثُ القلب بعد ذلك الشَّعاع الكثير،

هذه الفرصة هي: الاعتكاف في بيت من بيوت الله تعالى تحبس فيه النفس

عن مشاغل الدنيا ومذاهلها. هذا الحبس الذي تولع به الأرواح المتقية،

وتظل تنتظره طوال العام بشوق؛ لما تجده فيه من لذة المناجاة، وطيب الملاقاة،

وحلاوة الضراعة، وسعادة الأُنس بالله تعالى،

وفرح الخلوة للعبادة الكثيرة الخاشعة في خير زمان، وخير مكان.

في تلك الليالي المنيرة، وأيامها المشرقة ينتصر المعتكف الصادق

على هوى نفسه، وهوى أهله، وهوى من له ببقائه في خضم الدنيا مصلحة،

فيخرج بقلبه وروحه إلى زمزم رمضان؛ ليتضلع من نميره العذب

فيكون طعامَ طُعم، وشفاء سقم.

في ذلك المكان الطاهر البهي يجد زمنًا يخلو فيه بربه، فيناجيه ويدعوه،

ويعبده ويرجوه، ويبوح له بحاجاته، وأشواقه

في تلك الحال من السمو الروحي تتجلى عظمة العبادة الخالصة،

ويذوق العابد ألذَّ ما في الحياة، ويعرف أن الحياة إنما هي هُنا،

في تلك الزاوية المنفردة يحسّ العبد المنيب تحت خبائه باتساع الحياة

مع الله تعالى، وضيقها مع البشر، ويرى الغباء ماثلاً في الانصراف

عن هذا الأفق الرحب إلى ما يشغل الروح عن بارئها،

والجوارح عن أسباب راحتها، ويقول: أين نحن من هذا النعيم

الذي نستطيع أن نجد فيه الحياة الحقيقية لو أردنا، لماذا أعرضنا عنه،

وذهبنا نبحث عن الراحة في مضايق الشقاء، وننقب عن السعادة في دياجير الظلماء؟!


أين الذين اسودت الدنيا في وجوههم، وكستهم المصائبُ أثوابَ الأحزان

والهموم؟ فرّوا إلى الله تجدوا الفرج، وتروا المخرج،

أخرجوا من سَمِّ الخيط إلى الفضاء الأرحب

إن الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سُنة نبوية

فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعلها أصحابه،

وفعلها ويفعلها الصالحون من بعدهم

فمن تيّسر له فعلُه فلا يفوّت على نفسه هذا الخير؛

فهو غُنم كبير في وقت يسير، ومن لم يقدر عليه كله فلا يترك بعضه،

ولو ساعات قليلة يحلق بها في جوّ الصفاء الروحي.

ولكن الذي يروم تحقيقَ مقاصد الاعتكاف، والوصولَ إلى أهدافه المنشودة

عليه أن يختار المكان الذي يخشع فيه، ويقلّ فيه الضجيج ولقاءُ الناس،

ويستطيع فيه اعتزالَ الناس ليخلو بربه متفكراً ومتأملاً، وتاليًا ومتدبراً،

ومتضرعًا وداعيًا، وذاكراً وباكيًا على تفريطه، ومشتاقًا إلى لقاء ربه.

وبعد هذه الرحلة الإيمانية التي حاز فيها المعتكف الصالح على شحنة

إيمانية عالية يعود إلى أهله وقد تجدد إيمانه، وتلألأت أنواره،

فيفرح مرتين: مرة بإتمام طاعته، ومرة بلقاء أهله ومحبيه.

والمعتكف الفائز لا ينسى تلك الليالي المقمرة،

والأيام النضرة التي عاشها بين أحضان الاعتكاف؛

فلذلك يجعلها نبراسًا له يضيء طريقه في مستقبل أيامه،

ويعدّ ذلك الزمن المبارك النَّدي الذي عاشه هناك قدوةً يميل إليه ولا يميل عنه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق