الأربعاء، 5 مايو 2021

غصون رمضانية ( 023 – 030 )

 غصون رمضانية ( 023 – 030 )

عبدالله بن عبده نعمان


يهبّ رمضان بنسائمه العذبة على المجتمع المسلم فيفرح المؤمنون بها،

وينزلونها منازلها من قلوبهم وأرواحهم، فيطفئ برد تلك النسائم

حرارة حزن الدنيا ولأوائها.


في الثلث الأخير من رمضان تخرج مواكب الإيمان في الثلث الأخير من الليل

إلى رحاب المساجد لتشهد لحظات غالية في زمن الدنيا الرخيص،

تتسامى فيها الروح إلى الملاء الأعلى على معارج الخشوع،

ومصاعد السجود والركوع، لحظات خصبة تهتز فيها النفس وتربو

فتنبت من الخيرات من كل زوج بهيج، لحظات تزهر فيها النفوس،

وتلين فيها القلوب، وتذرف في رياضها العيون، وتسكن في روابيها الجوارح،

ويجتمع فيها شعث الروح، ويطير فيها الفكر على جناحي الخوف والرجاء

متأملاً في المصير المنتظر.


إن الحياة طريق إلى الله وهذه الطريق طويلة،

فقام أهل العزم والشوق هذه اللحظات يقربون المسافة بينهم وبين وجهتهم،

مستغلين خلو الطريق من المارة والطريق إلى الله شاقة فقاموا في هذه اللحظات

يخففون من مشقتها بالتزود من بركات هذه الأوقات وخيراتها،

منتهزين غناها وفضلها، وقوة تأثيرها في تذليل الصعوبات.


والطريق إلى الله كثيرة المخاطر فنهضوا هذه الساعة سائرين مستغلين

هجعة لصوص هذه السبيل، داعين الله بالثبات عليها،

والنجاة من قطّاعها، والنهار فيه حرارة وصخب وازدحام وانشغال بال

فقاموا هذه اللحظات لطيب نسيمها وهدوئها، وتفرغ البال وصفاء الذهن،

وسكون القلوب وخضوع الجوارح.


والنهار انتشار ورؤية وابتداء انطلاقة وسعي،

وهم يريدون أن يراهم من في السماء وحده، وأن يسبقوا ابتداء الناس،

وأن لا يكونوا مساوين، أو متأخرين عليهم، فقاموا تلك الساعة

ليراهم لا ليروهم، وقاموا في تلك الساعة مسارعين ليكونوا من المتقين


تنطلق تلك الأقدام عجلى تحمل أجساداً تحذر الآخرة، وترجو رحمة ربها

تتجافى جنوب أولئك الركب الطاهر عن المضاجع والفراشُ وثير،

والأنيس ودود، والنوم لذيذ، والبرد شديد، ولكن الشوق إذا سما لا تهبطه

نوازع المحابِّ الصادة، والمكاره الرادة، والغاية متى عظمت

فما في الدنيا شاغل عنها

وينطلقون إلى محاريب العبادة فيمرون على أقوام في أحضان النوم غاطين،

أو في راحات الغفلة سادرين، فيقولون: من يوقظ هؤلاء النائمين والغافلين؟!،

تصل تلك الجموع إلى بيوت الله فتقف صفوفها بين يدي الله قائمة وساجدة،

وراكعة وخاشعة وسامعة منصتة، فما أهيبَ الصفوف، وأعظم الوقوف،

وما أعذب المسموع، وأحلى الخشوع، وأعز السجود والركوع!.


إنها تجد للصلاة في تلك اللحظات لذة، حينما يسدل عليها من حضور القلب

وسكينة الجوارح ما تستعذب فيه طولَ القيام، وتجد للقرآن حلاوة

تتسلل إلى النفس حاملة معها حروفًا من نور تتفرع في جوانبها لتضيء

حياتها بأسرها، وتجد للدعاء طعمًا آخر، فتلهج به الألسنة،

فيصعد إلى السماء في لحظات القرب والإجابة، والاستغفار والإنابة،

عندما يقرب العبد فيها من ربه، ويقرب الرب فيها من عبده،

فتفتح السماء فيستجاب دعاء الداعين، وتقبل توبة التائبين، وتقضى حاجات السائلين.


ففي تلك اللحظات المضيئة ينسكب النور على القائمين الخاشعين فتكتسي الوجوه حُللَ السناء والضياء،

وتشرق القلوب فترى طريقها إلى الله تعالى، وتنشرح الصدور فتعرف قدر كلام الله.


فتلك اللحظات ما أحلاها! وأي حلاوة في لذات الدنيا تفوق حلاوتها،

وتلك اللحظات ما أغلاها! فغالي الحياة رخيص معها، وتلك اللحظات ما أعلاها!

وهل للروح مصعد أقرب وأسرع إلى السماء منها، وتلك اللحظات

ما أطهرها وأنقاها! فمن تنجس بدنس الذنوب فليردْها ففيها مغتسل بارد وشراب.


فإذا انقضت لحظات القرب من الرب رجع أولئك الأخيار سيماهم في وجوههم

من أثر بقائهم في تلك الرياض ركعًا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا،

فعادوا كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه،

فبسق عود الإيمان، وتفرعت أغصانه، وينعت ثماره سكينة وطمأنينة،

{ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق