الخميس، 6 مايو 2021

غصون رمضانية ( 024 – 030 )

 

غصون رمضانية ( 024 – 030 )

عبدالله بن عبده نعمان

مظاهر الرحمة لهذه الأمة ألوانٌ متعددة، ولها صور متجددة،

ما زالت سُحُبها تنهلُّ عليها لتنمو من غيثها الثجَّاج بساتينُ النعمة زاخرةً

بكل زوج بهيج من التقديرات والتشريعات السماوية التي تنال الأمة

من ثمراتها النضيجة حلاوةَ العبادة، وإدراك عظمة الإسلام، وأسبابًا للثبات عليه.


ومن تلك الثمار اليانعة التي بسقت بمُزن الرحمة في بستان النعمة:

تيسير دين الإسلام، ورفع الحرج عن معتنقيه

فسبحان الله! ما أعظم هذا الدين الذي جاء به

سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام!،

وما أكثرَ نعم الله تعالى على أهله التي اصطفى لهم بعضها دون غيرهم

من أهل الأمم السابقة!


إن هذه السمة البارزة في الشريعة الإسلامية جليّة الظهور في كثير

من تشريعات الإسلام، وهذا يدل على رسوخها في التكوين التشريعي.

فمن تلك الأبواب التي أضحى فيها التيسير واضحَ المعالم، يدرك عمومَه

المسلمُ الجاهل، والمسلم العالم: التيسيرُ والتخفيف في باب صيام رمضان.


ففي رمضان تمتد أفنان التيسير على الصائمين فيجدون في ظلالها

السهولة واليسر في القيام بهذه العبادة العظيمة.

ففي حديث سورة البقرة عن صيام رمضان جاء قولُ الله تعالى:

{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ

وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

ليبين أن "مشروعية الصيام -وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر

فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي:

تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب

بعض الأديان الأخرى أنفسهم

فالله تعالى" أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر؛ فإنه ما أوجبه إلا

في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر،

وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة"

وإن شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير

أداء الفريضة؛ ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلّفت تكليفًا

فيه مشقة فتحت بابَ الترخيص؛ ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر

من غير تململ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات؛


والناظر المتتبع يجد هذه الهدية الربانية السَنية شاخصة في كثير

من نواحي صيام رمضان، فمن ذلك: أن رمضان لم ينزل إيجابه مرة واحدة،

بل مر بمراحل كان آخرها إيجاب صيامه بشروطه، وكان هذا دفعًا للمشقة؛

فإن النفوس في ذلك الوقت لم تعهد صيام شهر كامل على الوجوب.


ومن صور التيسير: أن صيام رمضان ضيفٌ عزيز يأتي إلى المسلمين

مرة واحدة في العام، فلو كثر نزوله ربما تُلفى فيه مشقة،

وهذه الزيارة مدة يسيرة، وليست إقامة طويلة ترهق المُنزِلين،

وتبغّض الضيف إلى المضيفين، فالمدة شهر قمري واحد فقط،

تهوينًا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ ل

أن الشيء القليل يعد عداً؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد،

ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع

بألف وتاء، وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر

الذي فيه هاء تأنيث أكثر


ومن صور التيسير: أنه لا يجب على جميع أفراد المسلمين،

بل على بعضهم ممن توفرت فيهم شروط الإيجاب، فلا يجب على صبي مطلقًا؛

لأنه تكليف، وهو فاقد لسببه، وهو نقصان عقله، إضافة إلى وهن جسمه،

ولا يجب مطلقًا على مجنون؛ لذهاب مناط التكليف عنه،

وهو العقل الذي يضبط الأفعال والتصرفات،

والمجنون لا يدري ما الصيام ولا مفطراته ولا مباحاته،

فاقتضت رحمة الله تعالى دفع مشقة الصوم عنهما تيسيراً عليهما.


ولا يجب على مريض حال مرض يشق عليه الصيام أثناءه،

ولكن يجب عليه إذا شُفي؛ فالصوم لكونه تكليفًا فيه نوع مشقة،

والمريض مطوَّق بمشقة السقم، فلا يرغب بمعكر إضافي؛

إذ قد يضاعف الصومُ مرضه، أو يؤدي إلى وفاته، ويلحق بالمريض:

الهرم والشيخ الكبير، والحامل والمرضع.


ولا يجب على مسافر حال سفره

ولا يجب على الحائض والنفساء حتى تطهرا؛

إذ هما تعانيان غالبًا مشقةَ السيلان وآثاره من الإرهاق،

وتغير الأخلاق، فاقتضى التيسير الشرعي العفوَ عنهما عفواً آنيًا حتى يصحّا.


ومن صور التيسير: أن صيام رمضان فيه أجور عظيمة،

فأصحاب الأعذار السابقة لكي لا يحرَموا هذا الفضل الذي ناله غيرهم؛

فتصيبهم مشقة نفسية بالحرمان؛ جُعل لهم وقت آخر عقب رمضان

ليدركوا من ذلك الخير

ومن فروع التيسير: أن من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛

فإنما أطعمه الله وسقاه كما قال عليه الصلاة والسلام؛

وذلك أن النسيان صفة ملازمة للإنسان، فربما نسي كونه صائمًا فطعم أو شرب،

فجاء التيسير ليكسوه ثوب العفو، ويحثه على استمرار الصيام.


ومن صور التيسير: أن من أصبح جنبًا فإن صيامه صحيح، وعليه الغسل،

فقد ينام الإنسان على جنابة ولا يستيقظ إلا بعد أذان الفجر،

أو قد ينسى أنه على جنابة ولا يتذكر إلا بعد الصبح، أو أثناء النهار،

فمن التيسير: أنه يصح صومه ويجب عليه الاغتسال،

فلو كان ذلك مفطراً له لكان فيه مشقة عليه بالفطر ووجوب القضاء،

وربما فاته ذلك بنسيان أو ذهول، أو ضيق الوقت، وهو معذور في هذه الأحوال.

ومثله الحائض والنفساء إذا طهرتا من دميهما أثناء الليل أو قبل الفجر

صح صومهما إذا دخل عليهما النهار ولم يغتسلا، ثم يجب عليهما الغسل؛

وكان ذلك كله تيسراً من الله تعالى.


ومن صور التيسير: أن المحتلم نهاراً لا يفطر، وما عليه إلا الاغتسال

ومتابعة الصوم؛ لأن نزول مائه لم يكن بإرادته،

فلو كان حكم عليه بالإفطار لكان فيه مشقة.


ومن صور التيسير: أن الله تعالى لم يحرم المعاشرة الزوجية

إلا أثناء نهار الصيام، ولو حرمت كذلك في الليل لكان في ذلك مشقة


ومن صور التيسير: أن من أفطر عامداً فعليه أن يقضي ما أفطر من رمضان

بعد تولي رمضان؛ لأنه لو لم يصح قضاؤه لكان ثَم مشقة بحرمانه من ذلك.


وفنن آخر من أفنان التيسير وهو: أن المفطرات أصناف قليلة معدودة،

وغير المفطرات للصائم غير محدودة في إطار المباح،

فلو كان الأمر على عكس ذلك لأحاطت بنا المشقة.


إضافة إلى هذه الصور: يذكر أهل العلم رخصًا للصائم إذا فعلها لم يفطر،

وهي كثيرة غير محصورة، منها: تذوق الطعام للصائم،

واستعمال الأدوية التي لا تقوم مقام الأكل والشرب، والقيء من غير تعمد،

والأمثلة كثيرة.

فالحمد لله الذي أوجب فيّسر، وشرع وسهّل، وأنعمَ فأفضل، وجاد فأجزل.


رد مع اقتباس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق