الثلاثاء، 14 فبراير 2012

بدوي الجبل


بسم الله الرحمن الرحيم
(1905ـ 1981م)


محمد سليمان الأحمد الملقب ببدوي الجبل، علم من أعلام الشعر العربي المعاصر في سورية، ومناضل وطني قوي الشكيمة. ولد في قرية «ديفة» من أعمال منطقة الحفة في محافظة اللاذقية، ثم انتقل إلى قرية السلاطة، وفيها نشأ.

نشأ الشاعر في أسرة وثيقة الصلة بالأدب واللغة والعلوم الشرعية والتصوف، فوالده الشيخ سليمان الأحمد كان من علماء اللغة المتمرسين بها ومن الفقهاء المتعمقين، وقد أهلت بدوي الجبل هذه المعرفة ليغدو عضوا مراسلا في المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1922م، وكان جده الأكبر حسن بن مكزون السنجاري شاعراً متصوفاً، وترجع أسرته في أصل نسبها إلى قبيلة غسان التي كان لها سلطانها في بلاد الشام قبل الإسلام، وفي شعر بدوي الجبل اعتزاز بانتمائه إلى جده ابن مكزون وبأصله الغساني، نحو قوله يخاطب جده:

وغسان العلا قومي ولكن إلى آدابك الغر انتسابي

في هذه البيئة الثقافية نشأ بدوي الجبل، و تجلت منذ نعومة أظفاره موهبته الشعرية و ميوله الأدبية، وكان أخوه أحمد وأخته فاطمة شاعرين كذلك. وكان بدوي الجبل يقبل على مطالعة الدواوين الشعرية والكتب الأدبية. وهذه المطالعة هي التي صقلت مواهبه، وكان أستاذه الأول والده فقد قرأ عليه طائفة من الكتب الأدبية والدواوين الشعرية وكتب الحديث الشريف وقرأ القرآن وتأثر ببلاغته. و قال في ذلك: «نشأت في بيت علم وفقه وتأثرت أول ما تأثرت بالقرآن الكريم الذي لا يمكن أن تشرق ديباجة الأديب إلا بالإدمان على تلاوته، ثم تأثرت بالحديث الشريف وبخطب الخلفاء الراشدين ولاسيما خطب علي بن أبي طالب».


انتقل بدوي الجبل وهو في العاشرة من سنّه من القرية التي ولد فيها إلى قرية عين التينة، وقرأ على أحد المشايخ فيها، ثم انتقل إلى معهد إعدادي في اللاذقية، على أنه لم يطل عهده بالمدارس فقد انصرف في سن مبكرة إلى العمل السياسي ونظم الشعر، فنظم بواكير شعره منذ كان في الرابعة عشرة من سنّه، وقد اتجه منذ بدأ ينظم الشعر إلى الموضوعات الوطنية والقومية، وكان إعجاب الفتى بالثورة العربية التي تزعمها الشريف حسين والعهد الفيصلي يدفعه إلى النظم في هذه الموضوعات. وقد لفتت موهبته الأدبية نظر صديق والده رشيد طليع متصرف اللاذقية، فأظله برعايته وتشجيعه، وقد اصطحبه حين ذهب للقاء الملك فيصل ثم اصطحبه في الوفد الذي مضى للقاء صالح العلي الثائر على السلطة الفرنسية، وقد بقي بدوي الجبل حقبة من الزمن مع الشيخ الثائر. ولمّا عاد الوفد إلى دمشق قدم وزير الدفاع آنئذ يوسف العظمة الفتى إلى الملك فيصل.

استهل الشاعر الفتى نضاله الوطني منذ تلك الحقبة، وأذكت الأحداث شاعريته فقال طائفة من القصائد الوطنية تبرز إعجابه بذلك العهد، ووقف الفرنسيون على أمره فجعلوه في عداد أعدائهم وتربصوا به شراً. فلما احتلوا دمشق واستشهد وزير الدفاع المناضل يوسف العظمة وأنهوا العهد الفيصلي الوطني صدر الأمر باعتقاله فتوارى مدة في بيوت أصدقائه. ولما خشي الوقوع في قبضة الفرنسيين اتجه إلى حماة، ولكن حاكمها العسكري قبض عليه فألقي في السجن، ثم نقلوه من حماة إلى بيروت فظل مسجوناً بها عاماً ثم نقل إلى اللاذقية. وبعد مرحلة من التعذيب والتضييق أطلق من سجنه.

و لما سلخ الفرنسيون الشمال السوري من سورية عام 1922، وأسسوا فيه دولة منفصلة بذلوا جهدهم في استمالة الشاعر إلى صفهم، واضطر بعد ما لقيه منهم إلى مهادنتهم حقبة من الزمن، وكافؤوه بتعيينه نائباً في المجلس التمثيلي لدولة العلويين، ولكنه ما لبث أن استعاد عزيمته النضالية فانتمى إلى الكتلة الوطنية وصار من أشهر المتحمسين لوحدة سورية بعد أن كان من دعاة الانفصال. وانتخب سنة 1937 نائباً في المجلس النيابي ثم تكرر انتخابه مرات، وكان شعره إبان تلك الحقبة سجلاً للأحداث التي ألمت ببلده ومعرضاً لمواقفه الوطنية.

و لما نكث الفرنسيون عهودهم وألغوا سنة 1939 ما كان بينهم وبين الحكم الوطني من معاهدات وعادوا إلى فرض سلطانهم المباشر على اللاذقية أيقن الشاعر أن يد المستعمر سوف تمتد إليه مرة ثانية لتلقيه في السجن، فمضى إلى العراق ناجياً بنفسه وكان من المؤيدين لثورة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، وفي مقامه هناك أخذ ينظم الشعر يبث فيه حنينه إلى الوطن والأهل. وما كاد يشعر في مقامه هناك بشيء من الاطمئنان حتى اضطره إخفاق ثورة رشيد عالي الكيلاني إلى مغادرة العراق والعودة إلى الوطن فمضى إلى دمشق. ولما بلغه مرض والده انتقل إلى اللاذقية حيث علقت به أظفار المستعمر الفرنسي وزجت به في السجن في قلعة كسب، ثم أطلق سراحه بعد ثمانية أشهر. وفي سجنه قال الشاعر روائع من قصائده وصف فيها ما يختلج في نفسه من مشاعر. ولما أطلق من سجنه مع بزوغ عهد الحرية وعودة الحكم الوطني عاد إلى ممارسة نشاطه السياسي فانتخب نائبا في المجلس النيابي، ولتضلعه من اللغة العربية اختاره المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1945 عضواً مراسلاً. وكان حينئذ شديد الإعجاب بإبراهيم هنانو وثورته وقال فيه قصائد غرّاً. ويتجلى في قصيدته التي أهداها إلى روح هنانو اعتزازه بنفسه وكبرياؤه وتحديه للدهر، وقد تمثل نفسه أبا فراس الحمداني في فخره، يقول منها:

أُطلُّ على الدنيا عزيزا أضمنـي إليه ظلام السجن أم ضمَنـي القبـر

وما حاجتي للأفق ضَحيانَ مشرفاً ونفسي الضحى والأفقُ والشمس والبدر

وما حاجتي للكائنـات بأسـرها وفي نفسي الدنـيا وفي نفسي الدهـر

ونفسي لو أن الجمرَ مسَّ إباءهـا على بشرها الريّـان لاحترق الجمـر

وقد تقلد منصب الوزارة في العهد الوطني أكثر من مرة أولاها سنة 1954 في وزارة صبري العسلي وتولى فيها وزارة الصحة، وتولى بعدها وزارة الدعاية والأنباء، ثم فارق الوطن سنة 1956 مغترباً يتنقل من بلد إلى آخر، فاستقر حقبة من الزمن في بيروت حتى سنة 1961، ثم أقام مدة من الزمن في اصطنبول وتونس وفيينة. وألقى عصا الترحال أخيرا في جنيف. وكان شعره في هذه الحقبة صدى حنينه إلى الوطن وعواطفه الوطنية. ومن أحلى ما كتب في عتاب من تسببوا في هجرته قصيدته المشهورة «اللهب القدسي».

عاد بدوي الجبل إلى الوطن عام 1962، وأخذ يشارك بشعره في الأحداث التي عصفت بسورية والبلاد العربية آنئذ، ومنها نكسة حزيران 1967، وقد نزل به عام 1968 مصابان فادحان أولهما فقد ولده عدنان الذي ترك في نفسه جرحاً دامياً والثاني تعرضه للاختطاف والضرب وكاد يفقد حياته في ذلك الاعتداء، ولم ينقذه من أيدي الخاطفين إلا تدخل السيد الرئيس حافظ الأسد رحمه الله وكان آنذاك وزيراً للدفاع. ولكن الأحداث لم توهن عزيمته ولم توقف تدفقه الشعري، فظل يقول الشعر الرائع حتى وافته المنية.

كان الشاعر قد اعتاد منذ وقت مبكر نشر قصائده في جريدة «ألف باء» الدمشقية، ولم تكن شهرته قد ذاعت بعد، فأخذ يوسف العيسى صاحب الجريدة يذيل قصائد الشاعر بلقب «بدوي الجبل»، ولأنه لم يكن اسمه معروفا في ذلك الحين بهذا اللقب، وكذلك أطلق عليه لقب «شاعر العروبة». وكان شعره موضع إعجاب معاصريه من الشعراء والنقاد، ومنهم شاعر العراق الكبير جميل صدقي الزهاوي، والعلامة إسعاف النشاشيبي، وشاعر الغزل الرقيق الأخطل الصغير (بشارة الخوري)، وشاعر الشام خليل مردم بك، وقال فيه شاعر المهجر جورج صيدح، وقد قرأ قصيدة طويلة ذيلت خطأ باسم امرأة: «هذه الشاعرة الساحرة تسجد أمامها قوافي الشعر، ويحني هاماتهم شعراء العصر»، وقال فيه الأخطل الصغير، وقد أعجب بنبوغه الشعري المبكر: «إن شعر البدوي أرجح من عمره»، وقال فيه العلامة الشيخ عبد القادر المغربي: «إنه الشاعر الذي تمرد على ناموس التدرج».

تتجلى في شعر البدوي الجزالة وروعة الأداء، وجموح الخيال وسلامة التعبير، ومتانة اللغة، ورقة العاطفة، وهو يجري في أسلوبه على طرائق فحول الشعراء القدامى الذين تأثر بشعرهم، ومنهم المتنبي ومهيار الديلمي وأبو فراس الحمداني والشريف الرضي والبحتري. والغالب على موضوعات شعره المناسبات الوطنية، فله قصائد في معظم المناسبات الوطنية والقومية التي شهدها. وقد رثى طائفة من رجال السياسة والمناضلين الأحرار وشعراء العربية الفحول، ومنهم أحمد شوقي وإبراهيم هنانو، ويوسف العظمة وسعد الله الجابري، وكامل مروة. وتتجلى في شعره السياسي عاطفته الوطنية المتأججة ومشاعره القومية الصادقة.

لم يكن شعره كله مقولا في المناسبات الوطنية، وإنما كان لقلبه وحبه حظ وافر من هذا الشعر، فله غزل رقيق يعبر عن حسه المرهف وعاطفته المتوقدة، ومن ذلك رائعته «شقراء تغني» ومطلعها:

هدهد همومك عندي على حيائي وصدي

حور النعيم تمنت نعمى هواي ووجدي

على أنه لم يجنح فيه إلى التذلل للمعشوق وإنما يبدو فيه شموخ نفسه وإباؤها.

ومن روائع شعره قصيدته التي قالها إثر احتلال الألمان باريس، ومنها قوله:

ويلُ الشعوب التي لم تسق ِمن دمها ثاراتها الحُمر أحقادا وأضغانا

ترنّح السوطُ في يُـمنى معذبِـها ريّان من دمها المسفوح سكرانا

تُفضي على الذلِّ غفرانا لظالمها تأنَّق الذُلُّ حتى صار غفرانـا

قل للألى استعبدوا الدنيا بسيفهـم من قَسَّم الناسَ أحرارا وعُبدانا

إني لأشمت بالجـبار يصرعـه طاغٍ ويُرهقُه ظُلما وطغيانـا
الموسوعة العربية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق