الثلاثاء، 14 فبراير 2012

البَكْرِيُّ


بسم الله الرحمن الرحيم
(…. ـ 487هـ/…. ـ 1094م)
أبو عُبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري مِنْ بكر بن وائل صَلِيْبَةً، من علماء الأندلس وأعيانِها في اللغة والأدب والأنساب والتاريخ والجَغرافية، وله معرفةٌ بالنبات والأدوية.

وُلد البكري في شَلْطِيْشَ Saltés، وهي بُليدةٌ في غربي إشبيلية على البحر، وهو يتحدّر من بيت عريق في الشرف والحسب والجاه والسلطة لِمَا لهم من ماضٍ في فتح الجزيرة ولصريح أنسابهم في بلاد العجمة، وقد كان لسلفه إمْرَةٌ في شَلْطِيْشَ وأَوْنَبَةَ وما إليهما دامت زهاء أربعين عاماً، ثم أخرجهم منها المعتضد عبّاد بن محمّد صاحب إشبيلية (404-461هـ) وغصبهم ملكهم سنة 443هـ.

خرج البكري إلى قرطبة ولاذ بصاحبها ابن جهور زماناً، ثم صار إلى محمد بن مَعْن صاحب المَرِيَّة فاصطفاه لصحبته وأصفاه وُدَّهُ ووسَّعَ راتِبَه، ولهذا نعته بعض المؤرخين بالوزير، ولقَّبه أحمد بن يحيى الضبي (ت 599هـ) في «بغية الملتمس» بذي الوزارتين، وذكر ابن أيبك الصفدي (ت 764هـ) في «الوافي في الوفيات» أنه كان أميراً بساحل كورة لَبْلَةَ. ويرى بعض المعاصرين، أنه لُقِّبَ بالوزير لأنّه وَزَرَ لأبيه أو لمصاحبته الملوك وإن لم يكن وزيراً على الحقيقة على ما جرى به العُرْفُ الأندلسي، على أن منزلة البكري في نفوس أهل عصره لم تكن أقلَّ من منزلة الوزراء. ثم رَجَعَ إلى قرطبة بعد دخول المرابطين، وتوفي فيها.

على أن هذه الأحداث لم تصرف البكري عن إرواء رغبته في طلب العلم، فقد روى عن أبي مروان بن حيّان مؤرّخ الأندلس (ت 469هـ)، وأبي بكر المُصْحَفِي، وأبي العبّاس العُذري، وأجاز له أبو عمر بن عبد البَرّ حافظ الأندلس (ت 463هـ). وكذلك كان البكري حريصاً على انتخاب الكتب ذات الخطوط المنسوبة مغرماً باقتنائها متثبّتاً في ضبط الألفاظ وتقييد الروايات على حسب ما كان يجده مثبتاً فيها. وممّا أسهم في ثِقافه واستوائِه رجلاً عالماً أن تسنَّى له أن يقف على كتاب «الأمالي» لأبي علي إسماعيل بن القاسم القالي (ت 356هـ) وأصولِهِ كـ «الإبدال» لابن السكّيت (ت 244هـ)، و«أمالي ابن الأنباري» (ت 328هـ)، و«نوادر ابن الأعرابي» (ت 231هـ)، وغيرها من النُّسخ الفذّة التي حرّرها العلماء بأيديهم أو ورَّاقون مَهَرَة.

ترك البكري للمكتبة العربية تراثاً قيّماً انتهى إلينا بعضه وطوى الدَّهْرُ بعضَه الآخر فيما طوى من ذخائر، وهو ينمُّ على معرفة واسعة وإحاطة بارعة باللغة والشعر والتاريخ والجغرافية والأنساب، وقد صعد نجمه وكانت ملوك الأندلس تتهادى كتبه. ومن تراثِه «كتاب الإحصاء لطبقات الشعراء» أحال عليه في «الّلآلي»، وهو على مثال «المؤتلف والمختلف» للحسن بن بشر الآمدي (ت 370هـ)، و«كتاب اشتقاق الأسماء»، و«أعلام نبوّة نبيّنا محمّد r»، و«التدريب والتهذيب في ضروب أحوال الحروب» أحال عليه في معجمه، و«شفاء عليل العربيّة» ذكره حاجي خليفة، و«كتاب صلة المفصول في شرح أبيات الغريب المصنَّف» أحـال عليـه فـي «اللآلي»، و«المسالك والممالك»، و«كتاب أعيان النبات والشجريات الأندلسية».

ومما طُبع من آثاره «فَصْلُ المقال في شرح كتاب الأمثال»، وهو شرح لكتاب «الأمثال» لأبي عبيد القاسم بن سلاّم (ت 224هـ). وقد رتّبه على عشرين باباً من المعاني يتفرّع منها أبوابٌ في محالِّها، فبابٌ في حفظ اللسان، وآخر في معايب النطق، وثالث في تعاطف ذوي الأرحام وتحنُّنِ بعضهم على بعض، ورابع في مكارم الأخلاق، وذكر البكري أن ما حمله على تصنيف هذا الكتاب أنه لمّا تصفح كتاب الأمثال رأى صاحبه قد أغفل تفسير كثير من الأمثال فجاء بها مهملة وأعرض عن ذكر كثيرٍ من أخبارها، فتولّى البكري إتمام ذلك. ومما يجدر ذكره أن البكري انتخب من أمثال أبي عُبيد ما يستطيع التعليق عليه، وعلى هذا فـ «فصل المقال» لا يضم إلا قطعة من أمثال أبي عُبيد.

و«الّلآلي في شرح أمالي القالي» وهو شرح لأمالي القالي التي أملاها بالأندلس، وضّح فيه معاني منظومها ومنثورها، وأتمَّ بعض القصائد، ونسب كثيراً من الشعر الغُفْلِ المجرّد، ونبَّه على اختلاف الروايات وعلى بعض ما وَهِمَ فيه أبو علي.

و«التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه» وجلّ هذه التنبيهات مبثوثٌ في «اللآلي»، وكأن البكري انتقاها وجعلها في كتابٍ مفردٍ على حِياله، وقدّمه للمعتمد بن عبّاد ووسمه باسمه. وفي الكتاب ضبطٌ وتحقيقٌ لغير قليلٍ من الأعلام وشعرٌ عزيزٌ نادر.

على أن أجلّ مصنفات البكري وأغزرَها مـادة وأقومَها جـادة «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع» وهو معجم جَغرافي يصف جزيرة العرب ويتتبع ما بها من المعالم والمشاهد والبلدان والآثار والمناهل والموارد، ويرصد هجرة القبائل من أوطانها وتنقلها بين مصايفها ومرابعها، ومباديها ومحاضرها، ويذكر أنسابها وأيامها ووقائعها. وهو من أجود معجمات البلدان من حيث غزارةُ المادة، وتمام الضبط وجمال الأسلوب. ورتّب معجمه بترتيب حروف الهجاء عند المغاربة على هذا النحو: ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ك ل م ن ص ض ع غ ف ق س ش هـ و ي. غير أن محقق معجمه غيّر وضع مادته، ورتبها على حسب حروف الهجاء المشرقي، وعلى ما يقتضيه نظام الفهرسة الصحيح، وذلك بترتيب حروفها بحسب صورتها.على أن معجم البكري أدق من معجم ياقوت في تحقيق أسماء المواضع التي وردت في الشعر العربي والحديث والسِّيَر وأيام العرب، وقد فات ياقوتاً كثيرٌ من البلدان التي ذكرها البكري. وضَبْطُ المواضع عند البكري بالعبارة لا بالحركات، وهذه المزيّة حمته من شوائب التصحيف والتحريف، وقد اعتمد في ذلك على الشعر الذي جاء فيه الموضع مسنداً إلى الراوي الذي نقله من العلماء، موازناً بين الروايات، مرجِّحاً رواية الثقات، يُسعفه في ذلك ذكاءٌ حاد وما اجتمع لديه من نفائس الأصول المضبوطة. وقد ترك معجم البكري أثراً فيمن صنّف بعده، وممن انتفع به القاضي عياض (ت554هـ) فـي «مشارق الأنـوار»، وعبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت 581هـ) في «الروض الأُنُف»، والفيروزآبادي (ت 816هـ) في «القاموس المحيط»، والمرتضى الزَّبيدي (ت 1205هـ) في «تاج العروس».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق