الجمعة، 4 يونيو 2021

موسوعة المؤرخين (43)

 

موسوعة المؤرخين (43)


ابن النجار البغدادي (الجزء الأول)
يُعد ابن النجار البغدادي (578-643هـ=1183-1245م) واحدًا من انبغ
المؤرخين المسلمين عبر تاريخهم الطويل؛ لِمَا قدَّمه للأمة من نتاجٍ علميٍّ
كبيرٍ ومتين، فمع أنَّه حافظٌ ثبت، فهو مؤرِّخٌ حجَّة، وإخباريٌّ قدير، وله من
الكتب ما هو شاهدٌ على ذلك، وأشهرها (ذيل تاريخ بغداد).

اسمه ونشأته
هو الحافظ الكبير محب الدين، أبو عبد الله، محمد بن محمود بن الحسن
بن هبة الله بن محاسن، محب الدين، ابن النجار البغدادي. المؤرخ،
الحافظ، الأديب.

وُلِدَ بمدينة بغداد في ليلة الأحد ثالث عشر من ذي القعدة سنة
(578هـ=1183م)، ولم يتم الثامنة من عمره حتى تُوفِّي والده -وكان مقدم
النجارين بدار الخلافة- فكفله أخوه علي، وكان ممَّن برع في علم الفرائض
والحساب؛ فأدَّبه وثقَّفه، حتى إذا بلغ العاشرة من عمره بدأ بسماع
الحديث من عمِّه أبي القاسم علي بن الحسن.

شيوخه
غير أنَّ ابن النجار لم يجدَّ في طلبه حتى بلغ الخامسة عشرة، حيث راح
يختلف إلى شيوخ بغداد يسمع منهم، فسمع من أبي الفرج عبد المنعم ابن
كُلَيب، ويحيى بن بَوْش، وأبي الفرج ابن الجوزي، ولقي أبا روح الهروي،
وعين الشمس الثقفية، وزينب الشعرية، والمؤيد الطوسي، وداود بن معمر،
والحافظ أبا الحسين علي بن المفضل، وأبا اليمن زيد بن الحسن الكندي،
وأبا القاسم بن الحرستاني، وغيرهم.

قال ابن كثير: "وشرع في كتابة التاريخ وعمره خمسة عشر سنة،
والقراءات، وقرأ بنفسه على المشايخ كثيرًا حتى حصل نحوًا من ثلاثة آلاف
شيخ، من ذلك نحو من أربعمائة امرأة". فألَّف معجمًا في أخبارهم، وقال
الذهبي: "وأول شيءٍ سمع وله عشر سنين، وأول عنايته بالطلب
وهو ابن خمس عشرة سنة، وتلا بالروايات الكثيرة على أبي أحمد
ابن سكينة وغيره, وسمع بأصبهان من عين الشمس الثقفية وجماعة،
وبنيسابور من المؤيد وزينب، وبهراة من أبي روح، وبدمشق من الكندي،
وبمصر من الحافظ ابن المفضل وخلائق، وجمع فأوعى وكتب العالي
والنازل وخرج لغير واحد".

رحلاته العلمية
فلمَّا كانت سنة (606 هـ=1209م)، وقد بلغ الثامنة والعشرين من عمره،
تاقت نفسه إلى الرحلة في طلب الحديث، فرحل إلى الحجاز والشام ومصر
وخراسان وهراة ونيسابور، يسمع من شيوخها، ويُحصِّل الأصول
والمسانيد، ويُدرك الأسانيد العالية.

ثم رجع إلى بغداد، وكان قد عزم منذ صباه أن يُؤلِّف تاريخًا عنها، فكان يُكثر
التتبُّع لأخبار فضلائها ومن دخلها، حتى اشتهر ذلك عنه، وأصبح التاريخ
العلم الذي ساد به، ثم عنَّ له أن يرحل ثانيةً في طلب العلم، فرحل إلى
أصبهان نحو سنة (620هـ=1223م)، ثم عاد منها ليحج ويُجاور في مكة
المكرمة، ثم رحل إلى مصر، فأقام فيها بعض الوقت ثم رجع إلى بغداد.

تلاميذه
روى عنه: تاج الدين بن الساعي صاحب الدر الثمين في أسماء المصنِّفين
وهو من أنبل تلامذته، والجمال محمد بن الصابوني، والعز أحمد بن إبراهيم
الفاروثي، والجمال أبو بكر الوائلي الشريشي، والتاج علي بن أحمد العراقي،
والعلاء بن بلبان، والشمس محمد بن أحمد القزاز، وجماعة. وبالإجازة:
القاضيان ابن الخوبي، وتقي الدين سليمان، والحافظ أبو العباس
أحمد بن الظاهري، وأبو المعالي بن البالسي.

مناقبه
قال عنه ابن الساعي تلميذه: "كان شيخ وقته، ثقة، وكان من محاسن
الدنيا". وقال في الدر الثمين: "كان إمامًا في علم الحديث، عارفًا بناسخه
ومنسوخه، وصحيحه وسقيمه، ومعرفة رجاله، والمرجوع إليه فيه، ولم
يخلف بعده مثله علمًا ودينًا، وصدقًا وثقةً وأمانةً، وكيسًا، ولين جانب،
وصحة عقيدة".

وقال ياقوت الحموي: "صاحبنا الإمام محب الدين بن النجار البغدادي
الحافظ المؤرخ الأديب العلامة، أحد أفراد العصر الأعلام...، رحل إلى الشام
ومصر والحجاز وخراسان وأصبهان ومرو وهراة ونيسابور، وسمع الكثير
وحصل الأصول والمسانيد، واستمرت رحلته سبعا وعشرين سنة، واشتملت
مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ، وكان إمامًا، حجَّةً، ثقةً، حافظًا، مقرئًا، أديبًا،
عارفًا بالتاريخ وعلوم الأدب، حسن الإلقاء والمحاضرة، وكان له شعرٌ
حسن، وله التصانيف الممتعة".

قال عنه الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام: "وسمع الكثير ونسخ، وحصل
الأصول والمسانيد، وخرج لنفسه ولغير واحد، وكان إمامًا ثقة، حجَّة، مقرئًا،
مجوِّدًا، حلو المحاجة، كيِّسًا، متواضعًا، ظريفًا، صالحًا، خيِّرًا، متنسِّكًا، أثنى
عليه ابن نقطة والدبيثي والضياء المقدسي، وهم من صغار شيوخه من حيث
السند...، وكان من محاسن الدنيا". وذكره في كتابه العبر في خبر من غبر،
فقال: " كان ثقةً متقنًا واسع الحفظ تام المعرفة بالفن". وذكره في تذكرة
الحفاظ: "الحافظ الإمام البارع مؤرخ العصر مفيد العراق...، وكان من أعيان
الحفاظ الثقات مع الدين والصيانة والنسك والفهم وسعة الرواية".

وقال عنه ابن قاضي شهبة: "واستمر في الرحلة سبعًا وعشرين سنة، وكتب
عمَّن دبَّ ودرج، وعمَّن نزل وعرج، وعني بهذا الشأن عنايةً بالغة،
وكتب الكثير وحصَّل وجمع".

ويُقال: إنَّه حضر مع تاج الدين الكندي في مجلس المعظم عيسى أو الأشرف
موسى لأنَّه ذكره وأثنى عليه، فقال له الأشرف: أحضره، فسأله السلطان
عن وفاة الشافعي ومتى كانت، فبهت، وهذا من التعجيز لمثل هذا الحافظ
الكبير القدر، فسبحان من له الكمال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق