الأحد، 6 يونيو 2021

موسوعة المؤرخين (45)

 موسوعة المؤرخين (45)

محمد بن إسحاق النديم (الجزء الأول)
اسم النديم ونسبه
هو محمد بن إسحاق بن محمد بن إسحاق، الشيعي، المعتزلي، البغدادي،
المدائني الأصل، الورَّاق، المعروف بالنديم، وكنيته: أبو الفرج، وكنَّاه
المقريزي في "المواعظ والاعتبار": أبا يعقوب، والصواب أنَّ "أبا يعقوب"
كنية أبيه؛ لأنَّه يُعرف-أيضًا- بابن أبي يعقوب.

مولد النديم
أمَّا مكان مولده فقد وُلِد بـبغداد، وأمَّا تاريخ مولده فمختلفٌ فيه؛ فقد ذهب
بيارد دودج إلى أنَّه وُلِد في عام 324هـ، وأبدى عمر رضا كحَّالة احتمال أنَّه
وُلِد في عهد القاهر الذي دام من 320هـ حتى 322هـ، أو في عهدٍ سبق
عهد المقتدر (295-320هـ)، أو عهدٍ تَبِعَ عهد الراضي (322-329هـ)،
والاحتمال الثاني (وهو أنَّه وُلِد قبل 295هـ) هو الأرجح -من وجهة نظري-
بناءً على أنَّ الراجح في وفاته -كما سيأتي- أنَّه تُوفِّي سنة 380هـ أوَّلًا،
وثانيًا على ما قيل في عمره من أنَّه عاش نحو 90 سنة.

هذا وقد قال الشيخ عباس القمي (الشيعي) في ترجمة النديم في كتابه "الكنى
والألقاب": "حُكي أنَّه كانت ولادته في جمادى الآخرة سنة 297، وتُوفِّي
يوم الأربعاء لعشرٍ بقين من شعبان سنة 385"ا.هـ.

وتحديده شهر الولادة يُوحِي أنَّ له مرجعًا في ذلك، لكنَّه لم يذكر هذا المرجع،
بالإضافة إلى أنَّه ذكره بصيغةٍ أقرب إلى التمريض: "حُكي".

حياة النديم ومهنته وثقافته
لم تسعفنا المصادر بالكثير عن حياة النديم، وكلُّ ما يُعرف عنه أنَّه كان ورَّاقًا
في بغداد، وأنَّه ورث هذه الصناعة عن أبيه، وأنَّ أباه كان له دكَّان وراقة
ببغداد، وأنَّه عاش في القرن الرابع الهجري ذلك القرن الذي شهد نهضةً
علميَّةً وحركةً ثقافيَّةً وأدبيَّةً واسعة ظهرت في مختلف البقاع الإسلاميَّة،
وكثر فيه العلماء والمشايخ وطلبة العلم، وازدهرت فيه بعض المهن التي
تتَّصل بالعلم والأدب؛ أهمُّها صنعة الوراقة التي تعني نسخ الكتب وبيعها،
وصناعة الورق وبيعه وتجليد الكتب، وهي تُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ مهنة النشر
والتوزيع في زماننا، وتلك كانت مهنة النديم صاحب "الفهرست" ورثها
عن أبيه.

ولاشَكَّ أنَّ هذه المهنة كان لها أثرٌ كبيرٌ في توجيهه نحو الاشتغال بالعلم
وتأليف ذلك السفر المهمِّ في تراثنا الثقافي والببليوجرافي، وفتحت عينيه
على مختلف العلوم وأتاحت له فرصة التَّعرف على كمٍّ كبيرٍ من الكتب
والعناوين، ولاشَكَّ أنَّ ذلك أثَّر في شخصيَّته العلميَّة، فجاء الكتاب محكم
التأليف محبوك السبك، يظهر ذلك من تقسيمه إيَّاه وحرصه على تقديم
فهرسٍ شاملٍ لكتابه في مقدِّمته، وأنَّه أدرج فيه كلَّ ما وصل إليه من التآليف
والترجمات؛ حتى أصبح كتابه "أجمع كتابٍ لإحصاء ما ألَّف الناس إلى قريبٍ
من نهاية القرن الرابع الهجري، وأشمل وثيقةٍ تُبيِّن ما وصل إليه المسلمون
في حياتهم العقليَّة والعلميَّة في ذلك العصر". وقد وصفت بعض المصادر
النديم بـ"الكاتب" وهي مهنةٌ -أيضًا- تتَّصل بالعلم والثقافة برباطٍ وثيق،
كما أنَّها تعني الموظَّف في الدولة وكاتب الديوان.

عقيدة النديم
هذا عن حياته ومهنته وثقافته، وصلتها جميعًا بتأليفه ذلك الكتاب الفذ، أمَّا
عن عقيدته وأثرها في كتابه، فيكاد يُجمع كلُّ من ترجم له على تشيُّعه
واعتزاله؛ قال ابن حجر: "ولمـَّا طالعت كتابه ظهر لي أنَّه رافضيٌّ معتزلي؛
فإنَّه يُسمِّي أهل السنة الحشويَّة، ويُسمِّي الأشاعرة المجبرة، ويُسمِّي كلَّ من
لم يكن شيعيًّا عاميًّا، وذكر في ترجمة الشافعي شيئًا مختلقًا ظاهر الافتراء؛
فمَّما في كتابه من الافتراء ومن عجائبه: أنَّه وثَّق عبد المنعم بن إدريس
والواقدي وإسحاق بن بشير وغيرهم من الكذَّابين، وتكلَّم في محمد
بن إسحاق وأبي إسحاق الفزاري وغيرهما من الثِّقات"؛ وتعقَّبه محقِّق
"اللسان" فذكر أنَّ "الفهرست" ليس فيه توثيقٌ لهؤلاء الذين ذكر
ابن حجر توثيق النديم إيَّاهم.

قلت: ولعلَّ هذا من تصرُّف النسَّاخ أو من جاء بعد النديم؛ إذ من المعروف
أنَّ النديم إنَّما ترك في كتابه مواضع فارغة، أقحم بعضهم فيها أشياء ليست
من صنيع النديم، كالورقات التي فيها ترجمة لبعض أئمَّة المعتزلة وغيرهم،
وقد استبعدها (G. Fluegel) في نشرته متعمِّدًا لشكه في نسبتها إلى النديم،
وأيَّدت ذلك د. إيمان السعيد جلال في مقدِّمة تحقيقها لـ"الفهرست"
بالاشتراك مع د. عوني عبدالرءوف؛ بأنَّ أسلوب هذه التراجم وطريقة
عرضها تُخالف منهج النديم في تراجمه، ولعلَّ الحافظ ابن حجر رحمه الله
اطَّلع على نسخةٍ أخرى أكثر كمالًا ممَّا وَصَلَنا، أمَّا طعنه في الفزاري ومحمد
بن إسحاق فهو في "الفهرست" (ص104، ص105).

هذا وقد أبدى بعض الباحثين احتمال أن يكون تشيُّع النديم واعتزاله
هو السبب في تغاضي أصحاب كتب التراجم عنه أو إسقاط ترجمته -في
عصورٍ لاحقة- من الكتب التي تَرجمت له؛ قال: "ولعلَّ ممَّا يُرجِّح هذا الظن
ويقوِّيه أنَّ الذين ترجموا له كياقوت وابن حجر والذهبي شكَّكوا فيه واتَّهموه
بالاعتزال والزيغ على حدِّ تعبير ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان،
وإن كانوا قد أجمعوا على نسبة كتاب "الفهرست" إليه".

والذي يظهر لي أنَّ هذا غير صحيح؛ إذ إنَّ كتب التراجم فيها ترجمات كثيرة
لكثيرٍ ممَّن يُوصفون بأشدِّ ممَّا وُصِفَ به النديم من الشيعة عمومًا ومن
الروافض والمعتزلة والخوارج والمرجئة وغيرهم من المبتدعة،
وسبيل ذكر هؤلاء إنَّما هو لمعرفتهم والتحرُّز منهم.

ومن مظاهر تشيُّعه أيضًا: التزامه -في الغالب- بصيغة الصلاة على النبيِّ
صلى الله عليه وسلم التي يلتزمها الشيعة؛ وهي: "صلى الله عليه وآله"،
ورأيت في أحد المواضع صيغة الصلاة العاديَّة، وعندها كتب المحقِّق تعليقًا
يذكر فيه أنَّ في طبعة (G. Fluegel) "وآله" بدل "وسلَّم"، ويظهر أنَّ
(G. Fluegel) سبق قلمه بها وكتبها على عادة النديم، وتعليق رضا تجدَّد
هنا ممَّا يدلُّ على نزاهته وأمانته ودقَّته، فمع أنَّه شيعيٌّ لم يُثبت الصيغة
الخاصَّة بهم والتزم ما في المخطوط، ويغلب على ظنِّي أنَّ كتابة "وسلَّم"
مكان "وآله" في هذا الموضع في المخطوط -إن لم يكن تكرَّر- هو سبق قلم
لكنَّه هذه المرَّة من الناسخ، ومن مظاهر تشيًّعه -أيضًا- أنَّه يتبع ذكر
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بقوله: "عليه السلام" ونحو ذلك، كغيره
من الشيعة، هذا ولم يكن تشيُّعه واعتزاله بمانعٍ له -كلَّ المنع- أن يكون
موضوعيًّا في أكثر تراجمه وفي كلامه عن المؤلِّفين دون النظر
إلى مذاهبهم وعقائدهم.

وعلى الرغم من استفاضة وصف النديم بالتشيُّع أجد اختلافًا فيما وقفت عليه
من مصادر ترجمته في الكتب الشيعيَّة؛ فهذا الشيخ عباس القمي في "الكنى
والألقاب" يُثبت له هذا الوصف ويمدحه ويطريه، بل يزيده وصفًا جديدًا؛
يقول: "... الكاتب الفاضل الخبير المتبحِّر الماهر الشيعي الإمامي مصنِّف
كتاب الفهرست ...". وأعني بالوصف الجديد: كونه إماميًّا.

وعلى عكس ذلك نجد الخوئي في "معجم رجال الحديث" يُرجِّح أنَّه
من (العامة)؛ أي ليس شيعيًّا، وينفي ثبوت وثاقته؛ يقول: "الظاهر أنَّ الرجل
من العامَّة؛ وإلَّا لترجمه النجاشي والشيخ في كتابيهما، ولم يثبت وثاقته
أيضًا؛ فإنَّ مجرَّد نقل النجاشي والشيخ عنه لا يدلُّ على وثاقته".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق