الاثنين، 7 يونيو 2021

الانتكاسـة

 

الانتكاسـة



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا

محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



أما بعد:

فإن نعم لله علينا لا تعد ولا تحصى، وإن من أجل هذه النعم نعمة الإسلام

والإيمان، فله الحمد أن جعلنا مسلمين، ومن أتباع نبيه الكريم..



كما يفرح المؤمن حينما يرى ويسمع أن كثيراً من المسلمين رجالاً ونساءاً

شباباً وفتيات أقبلوا على الله، ورجعوا إليه، واستقاموا على شرعه، ولكن

في المقابل فإن البعض ممن ساروا في طريق الهداية والاستقامة زلوا عنه

وحادوا، وانتكسوا وتنكبوا له، وسقطوا سقوطاً مروعاً في وحل الذنوب،

وتركوا أوامر علام الغيوب، فما السر في ذلك؟ وما الأسباب وراء ذلك؟



إن لذلك السقوط، وتلك الانتكاسة أسباباً أدت إلى ذلك،

فمن هذه الأسباب ما يلي:



أولاً: الالتحاق بالشباب المستقيم من غير اقتناع ورغبة، وإنما التحق بهم

لأسباب معينة؛ لأنه يجد الأنس معهم، وللخروج إلى الرحلات، والذهاب إلى

الأماكن البعيدة دون أن يجد ملامة في ذلك، فلما وجد أن هذا الشيء يتوفر

عند هؤلاء؛ التحق بهم، ولم يلتحق بهم لأنه يرغب في الاستقامة على نهج

الطريق المستقيم، أو لأنه أعجب بشخص معين، أو أشخاص معينين،

فلا يأتي للشباب المستقيم إلا لأجل هذا الشخص، وقد يكون التحق بالشباب

بسبب صدمة هائلة حدثت له في حياته كأن يشاهد حادثاً، أو وفاة، أو رأى

محتضِراً، أو غير ذلك مما يعيده إلى صوابه، فيلتحق بالشباب؛ ولأنها صدمة

مؤقتة، فإن تأثيرها قد يكون مؤقتا؛ لذلك قد يرجع مرة أخرى إلى ما كان

عليه سابقاً.. وقد يكون التحق بالشباب المستقيمين لغرض دنيوي؛ كأن يريد

الزواج مثلًا، فيلتحق مع الشباب حتى إذا سئل عنه قالوا: أنه شخص صالح،

مستقيم، محافظ على الصلوات، ويسير مع أناس طيبين.. وما يقال في حق

الشباب يقال في حق الفتيات، فتجد ربما البعض منهن تسير مع المستقيمات

فترة ثم بعد ذلك تنتكس، وما ذلك إلا لأنها لم تستقم استقامة حقيقة،

وإنما لغرض من الأغراض السابقة الذكر..



ثانياً: عدم الاهتمام بتربية الشاب لنفسه؛ أو الفتاة لنفسها، فلا قراءة قرآن،

ولا محافظة على الصلوات، ولا أداء للنوافل بأنواعها من قيام ليل، أو قراءة

قرآن، أو صوم نافلة، أو غير ذلك؛ فأهمل نفسه، ورضي بالكفاية بأن يكون

ملتزما في مظهره فقط، وهذا هو الالتزام الأجوف، يكون مستقيماً شكلًا،

أما مضمونا فهو في الحقيقة منتكساً، وإذا انتكس الباطن فإن الظاهر سهل

جدا أن ينتكس بعد أن ينتكس الباطن، وهذا هو السر في أنك تفاجأ بانتكاس

بعض الأشخاص الذين تحسبهم من أنشط الناس، وأحرصهم على عبادة الله،

وهو في الحقيقة انتكس سابقا في الباطن، واحتفظ بالشكل الخارج حتى

أتى اليوم الذي لم يبق للشكل الخارج فائدة فانجر الانتكاس إلى

الشكل الخارج أيضاً.



ثالثاً: عدم فهم الشباب الملتزم فهما صحيحا، وذلك أن بعض الشباب الذين

بدءوا بالالتزام عندما يدخل مع الشباب الملتزمين يصور لنفسه أنه يدخل مع

ملائكة لا يخطئون، ويجب أن لا يخطئوا، مع أنهم بشر كغيرهم من البشر لهم

أخطاء، ونحسب أن صوابهم أكثر من خطأهم، لكن لا يعني هذا أن خطأهم

غير موجود، فعندما يدخل معهم بهذا التفكير، ويفاجأ بوجود خطأ منهم،

بل ربما يفاجأ بوقوع الخطأ عليه، فيولد هذا صدمة هائلة في حياته؛ تؤثر

عليه تأثيرا سلبيا مما يجعله ينتكس مرة أخرى، ويقول: انظر إلى هؤلاء

الشباب الملتزمين ماذا يفعلون! ونسي أنهم بشر، يخطئون ويصيبون.



رابعاً: سوء التربية من قبل المربي. والخطأ في التربية جوانب متعددة فربما

يكون الخطأ من المربي في: عدم مراعاة الجانب الوجداني في الشخص:

فلا يحرص على تقوية إيمانه وربطه بالله سبحانه، بل تراه يكثر من المزاح

معه، ومن جلبه ما يؤنس هذا الشخص الجديد كأشرطة الأناشيد مثلا،

والإكثار من النكت والطرائف وغير ذلك مما يجعل هذا الشخص يتربى

على هذه الأشياء، وينسى الجانب الوجداني الذي يصله بالله.



عدم مراعاة الجانب العلمي في الشخص: فلا يحرص على تعليمه، وتحبيبه

للعلم وأهله، ولا شك أن الدخول في مجال العلم طلبا وتعليما؛ وسيلة

عظيمة للثبات.



عدم مراعاة الجانب الخلقي في الشخص: وذلك بألّا يحرص على تحسينه،

وتهذيب أخلاق هذا الشخص الملتزم الجديد، فينشأ سيئ الخلق،

مما قد يوصله إلى الانتكاس.



عدم تدرج المربي مع هذا الشخص التدرج المطلوب: فربما يعامله بالشدة

القاسية التي تنفر هذا الشخص، وربما يكون العكس تماما، فيربيه على

التساهل، وعدم الانضباط، وهذه أيضا وسيلة للانتكاس.



خامساً: عدم طرح أسباب الانتكاس على الشباب، فإن معرفة الشر

وسيلة لاجتنابه؛ كما قال الشاعر:



عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه *** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه



سادساً: الحنين إلى الماضي، فربما يكثر من التفكير في معاص قد اقترفها

سابقا، ويتلذذ بهذا التفكير أو يحتفظ بأفلام، أو صور، أو أشرطة قديمة،

أو غير ذلك مما يذكره بالماضي، بل ومن أهم ما يُذّكر الإنسان بالماضي

صديق الماضي قبل الالتزام، هذا الصديق من أخطر الأسباب التي قد تجرك

إلى الانتكاس لأن: هذا الصديق يتكلم بلسان يؤثر فيك، ثم أيضا أن

هذا الصديق لا تعده عدواً، ولذلك لا تحتاط منه.



سابعاً: الابتعاد عن الشباب الصالحين، قال الله تعالى:



{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ

وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }

… سورة الكهف(28).



فالابتعاد عن الشباب الصالحين سيجعلك منفردا، ولن تستمر على هذا

الانفراد، بل ستبحث عن أصدقاء آخرين، فإن لم يكن لك أصدقاء طيبين،

صالحين، يحثونك على الخير، فإنه سيكون لك -ولو بعد مدة- أصدقاء

سيئين يحثونك على الشر.



ثامناً: عدم إبراز الملتزم شخصيته الدينية، وخصوصا إذا كان مظهره

لا يدل على الالتزام.



تاسعاً: الحماس الزائد غير المضبوط بضوابط معينة، بل حماس وثورة لمدة

معينة، ثم ينطفئ كسعف النخل إذا أشعلته رأيت له نارا تلظى، ولكن سرعان

ما تنطفئ، وتخمد، ويذهب هذا الضوء، وهكذا سرعان ما ينتكس

من يريد الشيء بسرعة كبيرة بعد أن يلتزم.



يريد أن يحقق كل شيء بسرعة، وقد يصل به هذا إلى الغلو، ومن ثم

التقصير؛ لأنه سيتعب، ويكل، ويمل، ثم بعد ذلك سينتكس -نسأل الله العافية-.



حادي عشر: عدم حب الانضباط بل حب التساهل والتسيب، وهذا يؤدي به

في النهاية إلى أنه لا يحصل شيئا، ولا يستفيد من أي شيء، متسيب،

فينتكس؛ لأنه ليس عنده شيء يمنعه من الانتكاس.



ثاني عشر: أن يكون في قلبه مرض، أو آفة كبرت مع الوقت، مثل أن يكون

في قلبه غرور، أو عجب، أو كبر، أو حب رئاسة، أو غير ذلك من الآفات؛

ولم يجاهد نفسه في التخلص منها، فتكون مثل النبتة الصغيرة، فتضرب

بعروقها في قلبه، فتحرفه عن الطريق فيما بعد.


ثالث عشر: عدم العمل بما يوعظ به، يسمع الموعظة لكنه لا يعمل بها، ولو

عمل بها لزاده الله ثباتا، قال تعالى:

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}

سورة النساء(66).



أي عدم العمل بالعلم. هذه بعض أسباب الانتكاسة، وكما قيل إذا علم السبب

بطل العجب، وإذا علم سبب المشكلة سهل علاجها، وبضدها تتميز الأشياء،

فإذا عرف الإنسان السبب الذي يؤتى من قبله فليبتعد عنه، وليسأل الله أن

يهديه ويسدده ويوفقه لسلوك الصراط المستقيم، وأن يثبته على هذا الدين،

وأن يمنحه سلوك طريق الصالحين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا

من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا

وانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله

وصحبه أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق