الثلاثاء، 8 يونيو 2021

موسوعة المؤرخين (47)

 

موسوعة المؤرخين (47)



ناصر الدين ابن الفرات
لمحات من حياة المؤرخ الكبير ناصر الدين ابن الفرات المصري (735 –
807هـ = 1335 - 1405م) صاحب تاريخ "الطريق الواضح المسلوك إلى
معرفة تراجم الخلفاء والملوك" والذي اشتهر باسم "تاريخ ابن الفرات"،
وهو يعد من أجمع التواريخ ومن أهمها على الإطلاق.

نسبه ونشأته
هو الإمام المؤرخ المحدث ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن
علي بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز بن محمد الحنفي المصري، يُعرف
بـ "ابن الفرات المصري"، باسم النهر، وهو من بيت شهير بالعلم والفقه،
ويلقب كذلك بـ "شمس الدين".

ولد في القاهرة سنة 735هـ / 1335م، ونشأ في بيت علم وصلاح وفقه،
فأبوه أحد فضلاء الحنفية الإمام عز الدين عبد الرحيم بن علي بن الحسن
بن الفرات، من فقهاء الحنفية في عصره، فتعهد ولده محمد بالعلم والفقه،
وألزمه عددا من علماء عصره وتلقى العلم عنهم، ورحل إلى دمشق فأقام
فيها مدَّة، ونال الإجازة من الحافظ المِزِّي والحافظ الذهبي وغيرهما، كما أنه
سمع من أبي بكر ابن الصناج راوي دلائل النبوّة وتفرّد بالسماع منه، وسمع
الشفاء للإمام القاضي عياض من الدلاصي والثواب لآدم من ابن عبد الهادي،
وأجاز له أبو الحسن البندنيجي وتفرد بإجازته في آخرين.

قال أبو الطيب المكي الحسني الفاسي في ذيل التقييد: "حضر في الثالثة
على أبي بكر بن يوسف بن عبد العظيم بن الصباح المنذري المصري المجلد
العاشر من كتاب دلائل النبوة للبيهقي وأوله جماع أبواب أسئلة اليهود
وغيرهم واستبرائهم عن أحوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته وإسلام
من هدى للإسلام منهم وينتهي إلى باب ما جاء في أخباره بظهور الروافض
والقدرية أن صح الحديث فيه فظهروا وهو أول المجلد الحادي عشر.
وكان سماعه عليه إياه حضورا في مجلسين آخرهما يوم الثلاثاء خامس
جمادى الأولى سنة 737هـ بجامعة الأقمر بالقاهرة قرأت عليه المجلدة
العاشرة وغيره من مروياته. وسمع على عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد
بن عبد الهادي بالقاهرة صحيح مسلم، ومن أبي الفتوح يوسف بن محمد
بن محمد الدلاصي كتاب الشفا لعياض. وأجاز له من دمشق فيما أخبرنا به
صاحبنا المحدث خليل بن محمد الأفقهسي علي بن محمد البندنيجي. وأجاز له
باستدعاء مؤرخ برجب سنة 741هـ من دمشق جماعة كثيرون منهم أحمد
بن علي الجزري وأحمد بن رضوان بن الزنهار وأحمد بن السيف محمد المقدسي
ومحمد بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الدائم وعبد الرحمن بن عبد الهادي
وعبد الرحمن بن تيمية وعبد الرحمن بن مناع التكريتي وعبد الرحمن
بن أحمد المرداوي وعلي بن عيسى الشيرجي وعلي ابن العز عمر المقدسي
وجبيبة بنت العز وصفية بنت أحمد المقدسيون ونفسية بنت إبراهيم الخباز
والسدي والحافظان المزي والذهبي ..، أجاز لشيخنا أبي الفتح بن أبي بكر
بن الحسين المراغي".

ولما استقر به المقام في القاهرة اشتغل وتكسَّب بحوانيت الشهود وعقود
الأنكحة بحانوت عند قنطرة قديدار في ظاهر القاهرة، وولي خطابة
"المدرسة المعزية" بالقاهرة. واشتغل بعلم الفقه والحديث، فسمع وحدَّث،
وروى عنه خَلْقٌ كثير. وقد وُصِفَ بأنه كان من أهل "الخير والدين والسَّلامة". وروى عنه خلق كثير أجلهم ابن حجر العسقلاني رحمه الله.

ومن ذريته ولده الإمام مسند عصره العلامة القاضى عز الدين عبد الرحيم
بن محمد بن عبد الرحيم، المعروف بابن الفرات كأبيه،(759 - 851هـ /
1358 - 1448م) كان "مسند مصر في عصره، مع العلم والفضل
والمروءة والشهرة"، قال ابن تغري بردي: "كان له رواية وسند عال
فى أشياء كثيرة سماعا وإجازة، وحدّث سنين كثيرة، وصار رحلة زمانه،
ولنا منه إجازة بجميع سماعه ومروياته".

اشتغاله بالتاريخ
كان ابن الفرات المصري لهجًا بالتاريخ متعلقًا به، وصنَّف فيه كتابًا واسعًا.
وتعبير "لهجا بالتاريخ" والذي درج المؤرخون على وصفه به يدل على
نهمه بالتاريخ وسعة علمه فيه. في ويذكر مؤرِّخ الديار المصرية أحمد بن
علي المقريزي (ت: 845هـ) في كتابـه "درر العقود الفريدة" الذي خصَّصه
لتراجم معاصريه أنه وقف على هذا التاريخ، ونقل عنه، وأفاد منه كثيرًا،
وأن مسوَّدته بلغت مئة مجلد بيَّض منها في أواخر عمره نحو العشرين، ومن ضمن ما بيَّضه تاريخ المئات الثامنة والسابعة والسادسة، في نحو عشرين
مجلدا، ثم شرع في تبييض الخامسة والرابعة فأدركه أَجَلُه. وكتب شيئا يسيرا
من أول القرن التاسع، قال الحافظ شمس الدين السخاوي: "وانتهت كتابته
إلى انتهاء سنة ثلاث وثمانمائة وأظن لو أكمله لكان ستين (أي مجلدا)".
وقد بيع ما تبقَّى منه مسوَّدةً، لعدم اشتغال ولده الإمام العلامة عبد الرحيم
بن محمد ابن الفرات بعلم التاريخ، مع أنه كان من أئمة العلماء والقضاة
في عصره.

تاريخ ابن الفرات
عُرِف تاريخه هذا بـ "تاريخ ابن الفرات". واسمه في الأصل "الطريق
الواضح المسلوك إلى معرفة تراجم الخلفاء والملوك"، إلاّ أن اسمه في دائرة
المعارف الإسلامية "تاريخ الدول والملوك". وقد بدأه بحوادث القرن الثامن
الهجري منذ سنة 803هـ، ثم أخذ يعود بالحوادث إلى الوراء، فلم يصل
إلاّ إلى القرن الرابع الهجري، وقد نقل ابن الفرات في كتابه هذا مقتطفات من
مصنفات من تقدَّمه من المؤرخين نقلًا حرفيًا ممَّا زاد في قيمة هذا الكتاب.
ومن جملة الكتب التي أكثر من النقل عنها كتاب "زبدة الفكرة في تاريخ
الهجرة" للأمير المؤرخ بيبرس المنصوري المتوفى سنة 725هـ.

إلاَّ أن من ترجموا لابن الفرات عابوا عليه أنه لم يكن يحسن الإعراب، وأن
عبارته عامية جدًا، ولـذا وقع في اللحن الفاحش، مع أن كتابه كثير الفائدة
من حيث الفن الذي هو بصدده، قال السخاوي: "وكتابته كثيرة الفائدة
من حيثية الفن الذي هو بصدده ولكنه لم يكن يحسن الإعراب فيقع له
اللحن الفاحش والعبارة العامية جدا".

جرى ابن الفرات في تأليف كتابه على قاعدة أكثر المؤرخين في عصره
والسابقين لـه، فرتَّب تاريخه بحسب تعاقب السنين، مفصِّلًا القول فيما جرى
من أحداث ووقائع. ثم أتبع ذلك بذكر طَرَفٍ من سِيَر من توفي في كل سنة
من العلماء والشعراء والأدباء والخلفاء والأمراء.

وعلى الرغم من ضياع معظم هذا الكتاب التاريخي المفيد، فقد حُفظت من
بعض أقسامه نسخة واحدة فريدة لا تزيد على تسعة مجلدات تضم أخبار
السنوات من سنة 501 إلى سنة 799هـ، ولا تخلو هذه النسخة من النقص
ومن سقوط بعض السنوات.

والمجلد التاسع الأخير منها ذو أهمية بالغة من الوجهة التاريخية، إذ إن
ابن الفرات سرد فيه الحوادث التي عاصرها وشاهدها أو اشترك فيه، وذهب
في عرضها إلى حدٍّ بعيد من الشرح والتفصيل. وقد أتمَّ قسطنطين زريق
تحقيق أربعة مجلدات من هذه النسخة الفريدة ونشرها في الجامعة الأمريكية
في بيروت عام 1942م، وقد اتَّبع المحقق الترتيب العكسي في نشر هذه
المجلدات، إذ بدأ بالمجلد التاسع منها (وهـو في جزأين) متدرجًا إلى ما قبله
معلِّلًا هذا الترتيب بقولـه: "وذلك أن الأخيرة، وهي أقربها إلى عصر
المؤلف، هي في نظري أهم من غيرها وأحرى بالنشر والإحياء"، ثـم تـلاه
المجلد الثامن فالسابع، وبذلك أصبح المطبوع من الكتاب يضم السنوات
من 672 إلى 799هـ، ثـم أتبع المحقق كل مجلد من هـذه المجلدات
بفهرسين اثنين أحدهما للأعلام من أشخاص وقبائل وشعوب،
والثاني للأماكن التي ورد ذكرها في الكتاب.


ومن يقلّب صفحات هذه المجلدات يعجب لهذا التقصي الدقيق الذي تتَّسم به
الأخبار المروية فيه، ولهذا الجهد الذي بذلـه المؤلف لإيراد كل صغيرة
وكبيرة ممَّا بلغه من حوادث الزمان أو من تراجم الأعيان، ومما تجدر
الإشارة إليه على وجه الخصوص كثرة النصوص الرسمية التي حفظها
ابن الفرات في طيات تاريخه، مما يسبغ على هذا التاريخ قيمة رفيعة، ويزيد
من الفائدة المجتناة منه حين دراسة العصر الذي يؤرخه. فمن ذلك مثلًا إثبات
الكتب المتبادلة بين صاحب الحبشة والملك الظاهر، ونصوص تقليد
بعض الولاة، إلى غير ذلك.

كما يَحْسُن أن يُلفت النظر إلى ما يرويه هذا المؤرخ من الأدب المنظوم
والمنثور في ذلك العصر ممَّا يهمّ الباحثين في تاريخ الأدب العربي من ناحية،
ويوضّح من ناحية ثانية بعض وجوه الحياة التي لم تنل العناية الكافية
من المؤرخين المشغولين على الغالب بالأحداث السياسية والحربية.

وفاته
توفي ابن الفرات رحمه الله بعد أن ترك للأمة تاريخا مجيدا وعلما ينتفع به،
في ليلة عيد الفطر سنة807هـ / 1405م، وله اثنتان وسبعون سنة.
فرحمه الله وأجزل مثوبته وجزاه عن الأمة خيرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق