الجمعة، 2 أبريل 2021

موسوعة المؤرخين (16)

 موسوعة المؤرخين (16)

خليفة بن خياط (الجزء الثالث)


كتاب الطبقات لخليفة بن خياط
ويتناول خليفة في كتاب "الطبقات" علم الرجال، ويظهر في كتابه هذا معرفة
وخبرة وعلمًا واسعًا بالأنساب، ولكنَّه يُضيف إليها الأخبار المتعلِّقة بالرجال
المترجم لهم، ويُعدُّ ابن خيَاط مع ابن سعد صاحب "الطبقات الكبرى"، أقدم
من أخذ بالترتيب الأنسابي من المصنِّفين في علم الرجال، وقد اعتمد
التسلسل القبلي بالنسبة إلى الآخرين من بعدهم.

وطبقات خليفة بن خياط من أقدم ما وصل إلينا من كتب الطبقات؛ فمؤلِّفها
معاصر لابن سعد الذي وصلتنا طبقاته ناقصة فيها سقطٌ كثير، يحوي هذا
الكتاب تراجم ما يُقارب 3375 من الصحابة والتابعين وتابعيهم رجالًا
ونساء, وقد تكرَّرت تراجم بعضهم ولا سيَّما الصحابة، وقد بدأ المؤلِّف كتابه
بالتحدُّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يُترجم للصحابة، حتى إذا
تحدَّث عن الأمصار ترجم لصحابة كلِّ مَصْرٍ ثم لتابعيه، وأمَّا الصحابيات فأفرد
لهنَّ بابًا خاصًّا في آخر الكتاب.

ومنهج خليفة في هذا الكتاب يُخالف منهج ابن سعد في طبقاته أحيانًا ويُقاربه
أحيانًا؛ فابن سعد بدأ كتابه بأن خصَّص المجلَّدين الأول والثاني في السيرة
والشمائل, وجعل الثالث لتراجم أهل بدر ونقباء الأنصار, والرابع للحديث
عن الطبقة الثانية من الصحابة، ثم الصحابة الذين أسلموا قبل فتح مكة,
والخامس لتابعي المدينة ثم للصحابة والتابعين في مكة والطائف واليمن
واليمامة والبحرين, والسادس للصحابة والتابعين من أهل الكوفة, والسابع
للصحابة والتابعين في البصرة والشام ومصر وخراسان وبقية الأمصار
الإسلامية, والثامن للنساء الصحابيات.

أمَّا خليفة بن خياط فقد بدأ كتابه بترجمة الرسول صلى الله عليه وسلم فعمُّه
العباس بن عبد المطلب، فبقيَّة الهاشميِّين, ثم أخذ يترجم للأمويين, ثم تناول
سائر بطون قريش بطنًا بطنًا, ثم ألمَّ بسائر القبائل المضرية فالعدنانية, وبعد
ذلك بدأ بالصحابة من القبائل اليمانية، وهذا يعني أنَّه رتَّب الصحابة وقسَّمهم
لا وفق سابقتهم ومنازلهم في الإسلام كما فعل ابن سعد، وإنَّما وفق أنسابهم
وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, متَّبعًا الأسلوب الذي طبَّقه
عمر بن الخطاب في الديوان، وكان يُشير إلى منزلة كلٍّ من الصحابة
في تراجمهم.

وبعد أن أنهى تراجم الصحابة جميعًا عادًّا إيَّاهم من أهل المدينة؛ لسكنى
معظمهم فيها أو دخولهم إيَّاها، شرع بعد ذلك بالحديث عن الأمصار فذكر أنَّ
معظم الصحابة تفرَّقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك تحدَّث
عن الصحابة في الأمصار على المنهج السالف, ثم تحدَّث عن التابعين
وفق أنسابهم أيضًا.

وأمَّا عن التابعين؛ فقد استمرَّ خليفة في منهجه الأول: التقسيم حسب القبائل
والنسب لا حسب الرواية. ولم ينس خليفة حين يترجم للتابعي أن يذكر عمن
روى من الصحابة. وبين ابن سعد وخليفة اختلاف في تعداد الطبقات،
فطبقات أهل البصرة مثلًا عند ابن سعد ثماني طبقات، وعند خليفة اثنتا
عشرة طبقة، وأهل الكوفة عند ابن سعد تسع طبقات، وعند خليفة إحدى
عشرة طبقة, وأهل الشام عند ابن سعد ثماني طبقات، وعند خليفة ست.

يُفيدنا نهج خليفة في تقسيم الطبقات حسب القبائل في معرفة قبائل كلِّ مَصْرٍ
من الأمصار، وبكلمةٍ أخرى نستطيع أن نتعرَّف إلى حركة انتشار القبائل
العربية وتوزيعها جملةً وتفصيلًا؛ ذلك أنَّ خليفة يُترجم لرجاله، ليس فقط
حسب قبائلهم الكبيرة؛ وإنَّما حسب أصغر الأفخاذ والفصائل، ومن عادته أن
يذكر نسب المترجم كاملًا حتى أعلى أجداده، وبهذا يُصبح الكتاب -بالإضافة
إلى كونه كتاب طبقات- كتاب أنساب، وخليفة كما وصفه المؤرِّخون محدِّث,
مؤرِّخ, نسَّابة.

وهذا المنهج يفيد -أيضًا- في دراسة التاريخ، وخاصَّةً تاريخ بني أمية؛
إذ كان للعصبيَّة القبليَّة فيه شأنٌ كبير، وعندما يعرف المؤرِّخ قبائل كلَّ إقليمٍ
في الدولة يستطيع التوصل إلى حلِّ كثيرٍ من المعضلات، ويقف على التيارات
السياسية وأسرار الحوادث, وفي هذا ما فيه من جليل الفائدة، ويظهر أنَّ
خليفة كان يحرص على ألَّا يفوته ذكر أيِّ قبيلةٍ من القبائل النازلة في
الأمصار، حتى التي لم يُعرف فيها محدِّثون، فكان إذا ما ذكر واحدةً من
هذه القبائل قال: "ليس فيها أحد". يعني من حملة الآثار.

ومن عادة خليفة -حين يترجم للصحابي- أن يذكر الأحاديث التي رواها هذا
الصحابي, ولكن لا يُثبت نصَّ الحديث كاملًا؛ وإنَّما يُشير إليه أو يذكر مطلعه
وموضوعه، والغالب على تراجم خليفة لرجاله أنَّها مقتضبة؛ فهو يذكر اسم
المترجم ونسبه ونسب أمِّه، وسنة وفاته ومكانها، وأحاديثه دون الإلمام
بشيءٍ عن حياته، وتكاد تراجمه للتابعين تكون مجرَّد تعدادٍ لهم في طبقاتهم،
دونما جرحٍ وتعديلٍ كما يفعل غيره، وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ اهتمام
خليفة بذكر أمَّهات رجاله وأنسابهنَّ له عظيم الفائدة؛ فهو يُمكِّننا من التعرُّف
على الصلات بين القبائل؛ لأنَّ التزاوج بين قبيلتين يعني في معظم الأحيان
وجود التعاون والتحالف بينهما.

وتأتي المدينة المنورة في الطليعة من حيث وفرة علمائها المترجم لهم،
وكلَّما قلَّ عدد العلماء في مدينة، تدنَّت منزلتها بالترتيب، وتأتي الكوفة بعد
المدينة المنوَّرة في الترتيب من حيث العد، ثم البصرة، وتليهم بعد ذلك سائر
المدن الأخرى في الترتيب وفقًا لأعداد علماء كلٍّ منها.

ولمـَّا كان خليفة بن خياط قد تميَّز بالثقة والصدق في حديثه وهو الأهم،
فقد انسحبت هذه الثقة -أيضًا- على مؤلَّفاته في كتب التراجم المهمَّة وكتاباته
التاريخيَّة، فلأنَّه عاصر الأحداث والشخصيات التي كتبت عنها جاءت مؤلَّفاته
في غاية الأهميَّة، وتُعدُّ طبقاته من الكتب التاريخية الرائدة التي لم تسبقها
طبقات عدا طبقات الواقدي المفقودة، كما أنَّ كتابته قد اتَّسمت بسعة الأُفق
التاريخي والجغرافي لطبقات الرجال؛ وذلك لتتبُّعه طبقات الصحابة والفقهاء
والمحدِّثين في الأمصار الإسلامية المختلفة، كما تمتاز معلوماته عن تراجم
الرجال والنساء بالاختصار والقصر، لكنَّها مفيدةٌ جدًّا، كما تُفيدنا معلوماته
في تشخيص الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للقبائل العربية وخططها،
وكذلك معرفة أسماء الموالي الذين دخلوا في الولاء ضمن هذه
التوزيعات القبلية.

لقد كان للثقة التي حازها ابن خياط دورُها في أن يُصبح مصدرًا هامًّا
وموثوقًا به لدى الكثير من العلماء، أمثال: الإمام البخاري، وعبد الله
بن أحمد بن حنبل، والطبري، وابن سعد. كما كان عمدةً ومرجعًا لكثيرين
قبلهم، من أمثال: يعقوب بن شيبة، والتستري، وبقي بن مخلد، وابن
عبد البر، والأصفهاني، وابن عساكر، وغيرهم الكثير.

وفاته

تُوفِّي خليفة بن خياط رحمه الله على الأرجح سنة (240هـ=854م) بمدينة
البصرة، على أنَّه قد اختُلف في تاريخ وفاته، قال بن خلكان: "وتُوفِّي في
شهر رمضان سنة 230هـ. وقال الحافظ ابن عساكر في معجم مشايخ الأئمة:
إنَّه توفي سنة أربعين (240هـ), وقيل: ست وأربعين ومائتين (246هـ),
رحمه الله تعالى". وقال الذهبي: "قال مطين وغيره: مات سنة 240هـ.
قلت: كان من أبناء الثمانين، وقد أخطأ من قال: مات سنة ست
وأربعين (246هـ)".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق