السبت، 3 أبريل 2021

موسوعة المؤرخين (17)

 موسوعة المؤرخين (17)

صاعد الأندلسي (الجزء الأول)
الصين والترك
«وأنبه هذه الأمم التي لم تعن بالعلوم الصين والترك. فأما الصين فأكثر الأمم
عددًا، وأفخمها مملكة، وأوسعها دارًا، ومساكنهم محيطة بمشارق الأرض
المعمور. وحظهم من المعرفة التي بزوا فيها سائر الأمم إتقان الصنائع
العلمية وأحكام المهن التصويرية، فهم أصبر الناس على مطاوعة التعب
وتجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع».

وتظل مع صاحب كتاب "طبقات الأمم" صاعد الأندلسي، في التعرف إلى
رؤية أحد أبرز علماء العرب المسلمين للأمم الأخرى، فبرغم أن العلوم وفق
معايير هذا الزمان، القرن الخامس الهجري، تقتصر على العلوم النظرية
والشرعية والتطبيقية بما يمكث في الأرض ويفيد الناس، إلا أن مؤلفنا
لا ينكر على الأمم الأخرى فكرة التمدن، فالصين أمة متحضرة لم تبرع
في العلوم بمعايير صاعد وغيره، إلا أنها أفخم الأمم مملكة، وتتقن
الصنائع العملية والتصوير.

والرأي نفسه يقوله ينطبق على الترك، وهم قبائل تمتد في ذلك الوقت من
غرب الصين إلى خراسان، ومن أقصى الشمال وحتى الهند، وفضيلتهم
»معاناة الحروب ومعالجة آلاتها، فهم أحذق الناس بالفروسية«.

كتاب طبقات الأمم
في كتاب "طبقات الأمم" بإمكانك أن تقرأ عن علوم الأمم المختلفة، وإشارة
هنا أو هناك إلى تاريخ أبرز أعلام هذه الأمة أو تلك، وبإمكانك التعرف إلى
مدى انفتاح العلماء العرب على الآخرين وعدم نفيهم وتقبل أفكارهم واحترام
ما قدموه للإنسانية، وأيضًا قراءة النظريات المنتشرة آنذاك حول أسباب
نهضة العلوم في بلد دون الآخر، وفي سرده السريع لما يشبه
أن يكون جرعة مكثفة للحضارات التي يعرفها.

يأخذك الأندلسي متجولًا بين حكمة وعدل الهند، وبراعة العرب في اللغة
والعلوم الشرعية وحتى العلمية، وتفوق اليونان في المنطق والفلسفة،
والكتاب مرة أخرى مكتوب في الأندلس بكل ما شهدته من نقاشات وحوارات
بين أصحاب الديانات المختلفة، ولذلك هو يضع العبرانيين ضمن الأمم
المتحضرة، تأثرًا بالتسامح الذي ساد هذا البلد الإسلامي ووصل فيه اليهود
إلى مراكز عليا ومتقدمة.

لقد كان مؤلفنا يدرك أنه ابن حضارة متألقة، تبحث لها عن موقع متقدم بين
الحضارات الكبرى: الهندية، اليونانية، الفارسية، الرومانية، المصرية، ولم
يكن بإمكانه ذلك إلا بالبحث والتنقيب في عوامل نهوض تلك الحضارات.

مؤشرات التمدن
البشر على مؤشر التحضر وفق صاعد الأندلسي لابد أن يتميزوا بثلاث
فضائل، يأتي في مقدمتها الأخلاق، فالقدرة على استخدام العقل وما ينتج عن
ذلك من علوم وفلسفة ثم بساطة اللغات وتنوع آدابها. ووضع الأخلاق في
المقدمة دلالة واضحة على أهميتها بالنسبة لعالم عربي مسلم، ويلفت الانتباه
مثلًا توقفه أمام أخلاق أمة الهند "وكانت الهند عند جميع الأمم على مرّ
الدهور وتقادم الأزمان معدن الحكمة وينبوع العدل والسياسة".

وهو ما يؤكد لدى صاعد وغيره أن الأخلاق، أو التفكير في الأخلاق، لم تكن
غائبة في فضاء الثقافة العربية الإسلامية كما سيردد بعض المُنظرين العرب
حديثًا، والأخلاق هنا مرتبطة بالحكمة والعدل والسياسة، ولذلك كانت الأمة
المتمدنة الأولى عند صاعد هي الهند "وكانوا يسمون ملك الهند ملك
الحكمة، لفرط عنايتهم بالعلوم وتقدمهم في جميع المعارف".

كان الأندلسي يبحث عن الحكمة ومعايير التمدن التي على أساسها تزدهر
الأمم، ولم يكن لديه ذلك الولع بالثقافة اليونانية التي أسقط البعض أيضًا من
مثقفينا المعاصرين ولعهم بها على القدماء من فلاسفة وعلماء العرب،
بل ربما تقف أمام النص التالي لتقرأ ما يتقاطع مع أحدث الأطروحات
الغربية المعاصرة لأصول الحضارة الإغريقية "وأما فيثاغورث .. كان قد أخذ
الهندسة عن المصريين، ثم رجع إلى بلاد اليونان وأدخل عندهم علم الهندسة
وعلم الطبيعة وعلم الدين"، "وأما سقراط فكان من تلاميذ فيثاغورث" ..
"وأما أفلاطون، فشارك سقراط في الأخذ عن فيثاغورث"، أي أن فلاسفة
اليونان الكبار أخذوا عن فيثاغورث الذي تعلم الهندسة وعلوم الطبيعة
والدين في مصر.

والكلام هنا يأتي في سياق السرد العادي للتاريخ، أي أن هذه المعلومات
كانت متداولة آنذاك، حيث لم تكن الثقافة اليونانية معجزة تاريخية أو طفرة
من عدم كما روج لها فيما بعد في ثقافتنا المعاصرة، ولم يكن على المثقفين
العرب المعارضين لهذه الأفكار انتظار أطروحة مارتن برنال "أثينا
السوداء" في أواخر القرن العشرين التي ذهب فيها إلى تأكيد الأصول
المصرية للحضارة اليونانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق