الثلاثاء، 30 أغسطس 2016

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا

صالح بن عواد المغامسي
 
يذكر رواة الأخبار وسدنة الآثار المروية أن أحد الشعراء في زمن بني
العباس مدح خال الخليفة هارون الرشيد بأبيات بليغة المعنى جيدة السبك
فلم يجزه عليها إلا بدينارين!
 
فاغتاظ الشاعر غضباً إذ أنه ما مدحه إلا طمعاً في نواله ورغبة في
عطائه، فدعاه ذلك إلى أن يهجوه بهجاء فاحش. فبلغت أبيات الهجاء
مسمع أمير المؤمنين الرشيد، فاشتاط غضباً وحنقاً على من لم يبالِ
بحرمة خالِ أمير المؤمنين .
 
وأقدم الشاعر بين يديه، فطلب الشاعرُ أن يستدعي أمير المؤمنين خاله،
فاستدعاه فأسمعه الشاعر أبياته الأولى في المدح، فأعجب الرشيد بمبناها
وفُتن بمعناها، عندها قال الشاعرُ للرشيد: "يا أمير المؤمنين، سلهُ بكم
أثابتي عليها؟"، فسأله فاعتذر عن الإجابة فما زال الرشيد يُلح عليه،
فقال: "كافأته عليها بدينارين"، عندها تُغيّر وجه الرشيد وقال لخاله:
 
"إن الإنسان يُؤتى من إحدى ثلاث نسبه أو ماله أو نفسه وأنت - يقصد
خاله - لا يمكن أن تكون قد أوتيت من قبل نسبك - لأنه من بني هاشم - أو
يؤتى من قبل ماله وأنت ثري ذو فضل فأنت خال أمير المؤمنين، فلم يبق
إلا أنك أوتيت من قبل نفسك، فهذا الشح والبخل واللؤم بسبب دناءة نفسك
لا بسبب نسبك ولا قلة ذات يدك".
 
من إجابة الرشيد هذه نستهلُ ما نبتغي بثه هنا، وهو أن هذه النفوس
عظيمة الخلقة بعيدة الأغوار ولهذا أقسم الله بها قال جل شأنه
 
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا }
 [الشمس:7].
 
وبين جل ذكره أن الفلاح في تزكيتها، لكن ينبغي أن يُعلم أن النفوس كما
تزكى بالتقوى، وترقى بالعمل الصالح فإنه يحسن بل يجدر بكل أحد أن
يحرص على أن تكون نفسه عظيمة في همتها، جليلة في مبتغاها، تترفع
عن كل دنيء فالحر لا يقبل مجاراة السفهاء ومجادلة الوضعاء وقديماً
 قال أبو تمام:
 
إذا جاريت في خلق دنيئاً
فأنت ومن تجاريه سواء
 
ولئن كانت لنا عناية تعليمية وتربوية وصحية بأنفسنا وأجسادنا فإن من
أعظم الغايات أن نغرس كمال النفس في من حولنا وفي أنفسنا من قبل.
وهذه خصال الشرفاء وأحوال الرفعاء، ولا ريب أن من أعظم العوائق إلى
الوصول إلى هذه الغايات النبيلة غلبة الهوى وحب الدنيا والجزع عند
النوائب والهلع عند الهبات.
 
فطوبى لمن جلت مطالبه وارتفعت عن الأحقاد واللؤم والغدر نفسه
واستحيا من الله في خلوته، ومن نفسه في غربته ومن الناس في علاقته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق