الاثنين، 5 يوليو 2021

موسوعة المؤرخين (74)

 

موسوعة المؤرخين (74)

سليم حسن .. رائد علم الآثار المصرية

المولد والنشأة

وُلد سليم حسن بقرية ميت ناجي التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة
الدقهلية في (11 من رجب 1303هـ= 15 من إبريل 1886م)، وقد
التحق سليم حسن بكُتَّاب القرية منذ صغره، وقبل أن ينتقل إلى المدرسة
تُوفِّي والده وتولت والدته وأخته الكبرى رعايته على أحسن وجه حتى
حصل على البكالوريا عام 1909م.

وبعد إتمام دراسته الابتدائية والثانوية التحق بمدرسة المعلمين العليا
بقسمها المستحدث في ذلك الوقت وهو قسم العلوم الأثرية، الذي أسَّسه
الآثاري الكبير أحمد كمال باشا، وقد تتلمذ على يد أحمد كمال باشا وحصل
على دبلومة الدراسات الأثرية واللغة المصرية القديمة في عام 1912م.

وقد حاول أن يلتحق بالمتحف المصري بمسعى من أحمد كمال باشا،
لكنَّه لم يُوفَّق، فعمل مدرِّسًا للتاريخ واللغة الإنجليزية بالمدرسة الناصرية
بالقاهرة، ثم نُقل إلى مدرسة طنطا الثانوية، ومنها إلى أسيوط، ثم نُقل
إلى القاهرة مدرسًا في المدرسة الخديوية الثانوية.


ويُشير مختار السويفي إلى أنَّ تفوُّقه الواضح في مجال الدراسات
التاريخية والأثرية حمل وزارة المعارف على تكليفه بوضع مناهج التاريخ
في مختلف المراحل الدراسية بمصر، وظلَّ حسن منهمكًا في عمله، إلَّا أنَّ
حلمه بالعمل بالمتحف المصري لم ينقطع.

النبوغ المبكر
كان سليم حسن في أثناء انشغاله بالتدريس وافر النشاط، عالي الهمة،
جاد النزعة، وحسبك أن تعلم أنَّه اشترك في وضع الكتب التاريخية التي
كانت مقرَّرة على طلبة المدارس، وهو في السن الغضة؛ فألّف "تاريخ
مصر من الفتح العثماني إلى قُبيل الوقت الحاضر"، و"تاريخ أوروبا
الحديثة وحضارتها"، وشاركه في التأليف "عمر السكندري"، وترجم
"تاريخ دولة المماليك في مصر" بالاشتراك مع "محمود عابدين"،
و"صفحة من تاريخ محمد علي" بالاشتراك مع "طه السباعي".

المتحف المصري .. الحلم الذي تحقق أخيرًا
لقد تعدَّدت محاولات سليم حسن للعمل بمصلحة الآثار التي كان يُسيطر
عليها الأجانب، لكنَّ محاولاته لم يُكتب لها النجاح، حتى إذا أقبلت ثورة
1919م التي أجَّجت الشعور الوطني، وأشعلت الحماس في النفوس تغيَّر
الوضع، وأصبح الوزراء المصريُّون بعدها أكثر استقلالًا، وأوسع نفوذًا،
فلاحت الفرصة لسليم حسن التي طال انتطاره لها؛ إذ انتهز "أحمد شفيق
باشا" وزير الأشغال فرصة تعيين أمينين فرنسيَّين بالمتحف المصري،
وأصرَّ على تعيين أمينين مصريَّين مساعدين لهما، فالتحق سليم حسن
بالمتحف أمينًا مساعدًا سنة (1340هـ= 1921م).

عام 1922 جاءت الفرصة لسليم حسن، ليُعيَّن وكيلًا للمتحف
المصري، ويجد نفسه هو وزميله محمود حمزة، المصريين الاثنين فقط
بين الأجانب، ما جعلهما يواجهان صعوبات كثيرة في العمل
أبسطها التجاهل.

البعثة إلى فرنسا

لقد أثار اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون سنة (1341هـ= 1922م)
دهشة الناس في العالم وإعجابهم بالحضارة المصرية القديمة، وولدت
في المصريين الاعتزاز بتراثهم المجيد، فتداعت الأصوات إلى إرسال
بعض المصريين لدراسة علم الآثار المصرية الخارج، فسافر سليم حسن
إلى باريس على نفقته الخاصَّة سنة (1341هـ= 1922م) لحضور
الاحتفال بمرور مائة عام على فكِّ "شامبليون" لرموز اللغة
"الهيروغليفية"، وتمكَّن من زيارة عدَّة متاحف أوروبِّية.

ولم يكتف بذلك بل التحق بقسم الدراسات العليا بجامعة السوربون،
وحصل على دبلوم اللغات الشرقية واللغة المصرية القديمة والكتابة
الهيروغليفية من الكلية الكاثوليكية، وحصل -أيضًا- على دبلوم الآثار
من كلية اللوفر، وأتمَّ بعثته عام 1927م بحصوله على دبلوم اللغة
المصرية ودبلوم في الديانة المصرية القديمة من جامعة السوربون،
ثم عاد إلى مصر في سنة (1346هـ= 1927م).

ثم عين سليم حسن مرَّةً أخرى في المتحف المصري، وأقنعه
المسئولون أنَّ مكانه هو المكتبة وأنَّ عمله الأساسي هو ترجمة دليل
المتحف، وكان ذلك يعني تجميدًا لنشاطه، لكنَّ هذا لم يدم طويلًا؛
فاستدعته كلية الآداب بالجامعة المصرية للتدريس بها، وترقَّى في
المناصب العلمية إلى أن بلغ درجة الأستاذية مع الإشراف على حفائر
الجامعة بمنطقة أهرامات الجيزة.

ولم تحل أعباء التدريس وأعمال الحفر والتنقيب دون مواصلة للدراسة
والبحث، فوضع بحثًا قيِّمًا نال عليه درجة الدكتوراه من جامعة فيينا،
سنة (1354هـ= 1935م).

مقالات نارية
عندما سافر سليم حسن إلى أوروبا اكتشف أنَّ جُلَّ آثار مصر مسروقة
ومعروضة في المتاحف الدولية، مثل رأس نفرتيتي التي شاهدها
في برلين.

وبعد عودته إلى القاهرة شرع في كتابة سلسلة من المقالات لجريدة
الأهرام تحت عنوان: «الآثار المصرية في المتاحف الأوروبية» كشف
فيها عن أسرار سرقة الآثار المصرية، ودور الأثريين الأجانب في ذلك،
وصب جامَّ غضبه على الفرنسيين والألمان والإنجليز، وطالب بتحرُّكٍ
رسمي وشعبي لاستعادة ذلك الإرث المصري الخالص، مما أثار حنق
المشرفين على الآثار من الأجانب والمصريين عليه.

العودة إلى مصلحة الآثار
ومن االواضح أنَّ المقالات النارية التي كتبها سليم حسن -وأشرنا
إليها- كان لها الفضل في أن تتجه أنظار الملك فؤاد إليه ويُقرِّر في عام
1936 أن يُعيِّنه كأوَّل مصري في منصب وكيل عام مصلحة الآثار،
وهو منصب كان مقتصرًا على علماء الآثار الأجانب، وهو الأمر الذي أثار
غصب الكثيرين من المصريين والأجانب وراحوا يدسُّون له الدسائس
محاولين إبعاده عن المنصب، وخصوصًا لوضوح اتِّجاهه برفض سرقة
وتهريب الآثار من خلال حملته الصحفية السابقة، خاصةً أنه عاد من
الخارج محمَّلًا بمسئوليَّة إنهاء الاحتكار الأجنبي للآثار المصرية.

تهمة ملفقة
يشير محمد عبد الواحد إلى أنَّه لمـَّا رفض سليم حسن إعادة مقتنيات
الملك فؤاد لابنه فاروق لُفِّقَت له تهمة سرقة قطع أثرية من المتحف
المصري بعد ثلاث سنوات من تولِّيه المنصب في عام 1936م،
وبعدها أحيل للمعاش.

ويذكر محمد عبد الواحد -في كتابه "مأساة صنعت موسوعة"-
ما نشره سليم حسن نفسه في جريدة الأهرام عام 1959م: «لقد اتهمت
في يوم من الأيام على يد فرنسي كان صديقا لفاروق، ويومها ظهر الحق
وقدم النائب العام استقالته بسبب قضيتي».

وقد كتب الدكتور سليم حسن في مقدمة موسوعته اهداءً قال فيه
«إلى الذين أرادوا الإساءة إليَّ فأحسنوا وباعدوا بيني وبين الوظيفة
فقرَّبوا بيني وبين الإنتاج وخدمة الوطن».

أهم إنجازات سليم حسن واكتشافاته الأثرية
أحصت الدكتورة ضياء أبو غازي جهود سليم حسن في عمليَّات الحفر
والتنقيب التي استمرَّت عشر سنوات (1348هـ- 1358هـ= 1929-
1939م) ونشرت قائمةً بها في حوليَّات مصلحة الآثار سنة (1384هـ=
1964م) فبلغت 171 عملًا، وذكرت نُبذًا عنها.

وكانت حفائره في منطقة الأهرامات بالجيزة من أهمِّ ما قام به من
أعمال؛ إذ كشفت عن عددٍ كبيرٍ من مقابر الدولة القديمة، وتُعدُّ مقبرة
"رع ور" التي كشفها جنوبي منطقة "أبو الهول" من أكبر المقابر،
وتكاد تماثل مقابر الملوك من حيث ضخامتها وكثرة التماثيل بها.

كما كشف مقبرة الملكة "خنت كاوس" آخر ملوك الأسرة الخامسة،
وحلقة الوصل بينها وبين الأسرة السادسة، وصُمِّمت المقبرة على هيئة
تابوت أُقِيم فوق صخرةٍ كبيرة، وأطلق سليم حسن على هذه
المقبرة "الهرم الرابع".

وكانت حفائر سليم حسن في منطقة أبي الهول من أهمِّ أعماله التي
كشفت عن أسرار "أبو الهول" وما يُحيط به من غموضٍ وإبهام، وكذلك
اكتشف مقابر أولاد الملك خفرع، بالإضافة إلى مئات القطع الأثرية
والتماثيل ومراكب الشمس الحجرية للملكين خوفو وخفرع، وامتدَّ نشاطه
إلى منطقة "سقَّارة" ومنطقة "النوبة".

وقد استعانت الحكومة المصرية بخبرة سليم حسن الكبيرة فعيَّنته
رئيسًا للبعثة التي ستُحدِّد مدى تأثير بناء السد العالي على آثار النوبة،
وكتابة تقرير عن وسائل إنقاذ معابد المنطقة وآثارها قبل أن تغمرها مياه
السد العالي، وعلى عملية جرد المتحف المصري سنة
(1379هـ= 1959م).

الإسهامات العلمية فائقة النظير
بعد أن ترك سليم حسن العمل الحكومي تفرَّغ للدراسة والتأليف،
وعكف على وضع مؤلَّفاته التي لا تزال محلَّ إعجابٍ وتقدير، على الرغم
من استمرار الاكتشافات الأثرية التي قد تؤدِّي إلى تصويب أو تخطئة
ما كان مستقرًّا من قبل من معلومات أثرية في المؤلَّفات التاريخيَّة.

وأهم مؤلَّفاته قاطبة هو موسوعة «مصر القديمة» الذي أخرجه
في ستة عشر جزءًا، وبدأ في نشره سنة (1359هـ= 1940م)،
ثم أصدر الجزء السادس عشر سنة (1380هـ= 1960م).

متناولًا تاريخ مصر وحضارتها من عصر ما قبل التاريخ، ومرورًا
بالدولة القديمة والوسطى والرعامسة والعهد الفارسي، وانتهاءً بأواخر
العصر البطلمي، وكان قد شرع في كتابة الجزء السابع عشر
عن (كليوباترا) لكن حال موته دون إصداره.

وهذه الموسوعة تُغني القارئ عن عشرات الكتب والمراجع التي
تتناول تاريخ مصر في هذه الفترة الطويلة، وتُعدُّ فريدةً في بابها؛
فلم يسبق أن تناول عالمٌ واحدٌ كلَّ هذه الفترة في مؤلَّفٍ له.

وله إلى جانب ذلك «الأدب المصري القديم» الذي نشره سنة
(1365هـ= 1945م) في مجلَّدين، تناول فيهما الأدب في مصر القديمة،
وكتب فصلًا كبيرًا عن الحياة الدينية وأثرها على المجتمع في المجلد الأول
من "تاريخ الحضارة المصرية" الذي أخرجته وزارة الثقافة
والإرشاد القومي.

وأسهم في ميدان الترجمة فنقل إلى العربية كتاب «ديانة قدماء
المصرين» للعالم الألماني «شتيدورف» سنة (1342هـ= 1923م)،
وكتاب «فجر الضمير» للمؤرخ الأميركي «جيمس هنري برستد» سنة
( 1376هـ= 1956م).

أمَّا عن مؤلفاته التي كتبها بغير العربيَّة فقد بلغت ثلاثة وثلاثين مؤلَّفًا،
وضمَّت كتبًا علميَّةً ككتابه عن «أبو الهول»، وكتابه عن «الأناشيد الدينية
للدولة الوسطى»، بالإضافة إلى بحوثه ومقالاته في حوليَّات مصلحة
الآثار والمجلات الأثرية الأجنبية، وتقارير حفائر في الجيزة
وسقارة والنوبة.

تكريم متأخر
وقد أرسلت أكاديمية العلوم العليا بـ”نيويورك" في عام ١٩٦٠م خطابًا
للدكتور سليم حسن جاء فيه: «الدكتور سليم حسن… اعترافًا منَّا بما
لاسمك من مكانةٍ علميَّةٍ في ميدان دراسة الآثار، وتقديرًا لجهودك الرائعة
وأعمالك المتواصلة في خدمة العلم، فإنَّه يسرنا أن نختارك
عضوًا بأكاديمية العلوم العليا بنيويورك».

وكان هذا انتخابًا بالإجماع في أكاديمية نيويورك
التي تضمُّ أكثر من ١٥٠٠ عالِم من ٧٥ دولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق