السبت، 10 يوليو 2021

موسوعة المؤرخين (79)

 موسوعة المؤرخين (79)


ابن حيان القرطبي..شيخ مؤرخي الأندلس (04)

مكانة ابن حيان العلمية والفكرية:
أجمع معظم الذين ترجموا لابن حيان القرطبي الأندلسي على أنه كان
إمام المؤرخين في الأندلس؛ لما تميزت به كتاباته التاريخية من سعة
ودقة وتفصيل وجودة وجمال وأسلوب. لذا يحظى بتقدير كبير من
المؤرخين، وعموم الكتاب ببلده يعتمدونه في الأخبار، وينقلون عنه
تراجم الرجال، ويعجبون بأدبه وأسلوبه البليغ، حتى قال فيه تلميذه
أبو علي الغساني (ت 498هـ / 1105م)، وهو من هو علما ودينا وقد
ذكره ضمن شيوخه: "كان عالي السن قوي المعرفة، مستبحرا في الآداب
بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه وأحسنهم
نظما (أي تأليفًا) له".

ونقل ابن بشكوال عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عون قوله:
"كان أبو مروان بن حيان فصيحا في كلامه، بليغا فيما يكتبه بيده. وكان
لا يعتمد كذبا في ما يحكيه في تاريخه من القصص والأخبار". وقال
الحميدي في جذوة المقتبس: "صاحب التاريخ الكبير في أخبار الأندلس
وملوكها، وله حظ وافر من العلم والبيان وصدق الإيراد ..، وأدركناه
بزماننا". أما ابن الآبار فيسميه "جهينة أخـبار المروانية، ومؤرخ آثارها
السلطانية".

وقيل إن ابن حيان ثلب أبا الحزم بن جهور، فتوعّده حفيده عبد الملك
بن جهور، وحلف أن يسفك دمه، فأحضره أبوه أبو الوليد محمد وقال:
والله، لئن طرأ على ابن حيّان أمر، لا آخذنّ أحدا فيه سواك، أتريد أن
يضرب بنا المثل في سائر البلدان: بأنّا قتلنا شيخ الأدب والمؤرخين ببلدنا
تحت كنفنا، مع أن ملوك البلاد القاصية تداريه وتهاديه؟ وأنشد له نظما،
وقال: سبحان من جعله إذا نثر في السماء، وإذا نظم تحت تخوم الماء".

ونوه به ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس وذِكر رجالها، بقوله:
""ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان
بن حيان، نحو عشرة أسفار، من أجلّ ما ألف في هذا المعنى. وهو في
الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال". وكذلك نوه به الشقندي في رسالته
المعروفة. وعده ابن خلدون مؤرخ الأندلس والدولة الأموية.

ولا يستغرب من أهل الأندلس أن يحيطوا نابغة من نبغائهم بهذه الهالة
من التقدير، وهم الذين عرفوا بفرط الاعتزاز ببلدهم، والاعتداد برجالاتهم
إلى حد التعصب. على أنه في الواقع شخصية فذة لا جدال في قيمة ما
قدمه إلينا من مادة تاريخية دسمة، تتوزع ماضي الأندلس من لدن الفتح
العربي إلى زمنه، وحاضرها المعاصر له، في كتابيه "المقتبس"
و"المتين"، بمجلداتهما العديدة التي لم يصلنا منها إلا أقل القليل.

ونُقل عن دوزي أنه قال: "إن كتاب العرب يمتدحون في كتب ابن حيان
صدق الرواية بقدر ما يعجبون بجمال أسلوبه وجزالة لغته ورنين
عباراته. وأنا أؤيدهم في ذلك كل التأييد، ولا أتردد في القول بأنه كتبه
-لو بقيت- لألقت على تاريخ الأندلس الغامض ضياء باهرا، وصورته لنا
أحسن تصوير، ولوجدنا أنها تبلغ من الامتياز مبلغا يجعلنا نستغني بها
عن غيرها من الكتب التي تتناول تاريخ هذه العصور".

وبالجملة فهو من كبار المؤرخين الذين ظهروا في مغرب الوطن
العربي، وإن لم يكتب تاريخا عاما يشمل البلاد العربية والإسلامية، كما
فعل ابن جرير الطبري وابن الأثير وابن كثير وأبو الفداء وابن خلدون
وغيرهم من أئمة التاريخ العام، لكنه وقد قصر تاريخه على بلاده
الأندلس، سدّ فراغا لولاه لم يسدّ وعمل في دائرته الخاصة عملا متقنا،
فلحق بركب المؤرخين المجيدين والمؤلفين المتميزين في هذا الشأن،
ويبالغ بعض الكتاب في شأنه فيجعلونه أعظم مؤرخ ظهر في الأندلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق