السبت، 14 مايو 2022

غياب التّواصل في عصر التّواصل

 غياب التّواصل في عصر التّواصل

تطوّرت وسائل التّواصل بين النّاس تطوّرا مشهوداً و تنوّعت، بدأ بالشّبكة
العنكبوتيّة العالميّة إلى الإذاعات السّمعيّة و المرئيّة. و تعدّدت الأجهزة
الخادمة للتّواصل، الحاسوب و اللّوحة الرّقميّة والهاتف الذّكيّ... و أحدثت
الحسابات الرّقميّة الشّخصيّة والمواقع.. و برزت إلى الوجود الصّداقات
والمجتمعات الافتراضيّة.. لا شكّ في أنّ هذه الوسائل لها فوائدها، إذ تسهّل
نقل الأخبار والأفكار والآراء لعدد كبير من الأشخاص في أيّ مكان وفي وقت
قصير، و تفتح مجال المشاركة في التّعبير عن الرّأي على نطاق واسع،
و يُلجأ إليها أيضا في ترويج السّلع.. وهي جدّ مفيدة في التّعليم
و تطوير كيفيّته..

إلّا أنّ هذه الوسائل تبقى مجرّد آليّات و لن تكون مجدية و لن تثمر النّفع
البنّاء، إن لم تضبط أهدافها بخُلق راقٍ يجعل الفرد يحبّ لنفسه ما يحبّ لغيره
و إن لم تستعمل بطريقة موزونة يحدّدها التّعقّل.

غياب الأخلاق و التّعقّل يضيّع الطّاقات فيما لا يغني و لا يسمن.. كم من بيت
هدم، و كم من فرد اتّبع خطوات الشّيطان بسبب سوء استخدام هذه الوسائل
المبتكرة؟! ..من المستفيد اليوم من هذه الآليّات؟

أهم من يديرونها أم المستهلكون لها؟!..
العالم الرّقميّ اليوم، سوق واسعة غابت في أغلبها ضوابط الأخلاق، كثيراً ما
يستعمل للإفساد و رفع الحياء، و ترويج الأفكار الفتّاكة، والإشاعات الباطلة،
وإرسال الرّوابط المشبوهة للنّصب؛ وكثير من النّاس الّذين ينمّقون القول،
عبر هذه السّوق، ليظهروا محاسن لا صلة لها بما هم عليه من حال أو خلق.

هل استخدام وسائل التّواصل الحديثة، من دون قيد خُلقٌ، يؤدّي حقّا إلى تأكيد
العلاقات الّتي يحتاجها الإنسان، وأهمّها العلاقة المباشرة الحيّة الّتي تنبض
حبّاً و تنتج تعاملا إيجابيّا راقياً على أرض الواقع؟!

و هل يا ترى العلاقة الافتراضيّة تعوّض الصّداقة المباشرة،
أم هي في العديد من الحالات تساهم في اضطرابها بل قطعها؟!

يغشى واقعنا اليوم جفافٌ في العلاقات.. غاب الودّ عن البيوت، كلّ فرد منعزل
في غرفته ممسك بهاتفه أو حاسوبه.. فُقِد التّواصل بين الجيران.. كلّ منغمس
في دائرته الصّغيرة يحوم حولها ولا يأبه لغيره، و لا يشعر به و لا يتواصل
معه إلّا خدمة لاحتياجه الذّاتيّ و مراعاة لمصلحته الخاصّة،
إلّا من ُرِحم!

الدّول متناحرة.. القويّ يستولي على الضّعيف....
غابت العلاقات الإنسانيّة والتّواصل الحقّ، في زمن التّواصل!

لن تفلح الآليّات المستحدثة و لن تكون مثمرة من دون تربية تجعل الفرد هو
المتصرّف فيها و ليست هي الّتي تحكمه.. تربية أساسها الحبّ.. حبّ الخير
للفرد، للمجتمعات و للإنسانيّة جمعاء..

هذا الحبّ الّذي أراده اللّه أن يكون القاعدة الأساس في علاقته بعبده،
الأساس في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان..

تقوم علاقة الإنسان بربّه ابتداء على الحبّ :

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (
{ المائدة آية 54.

و تسري روح هذا الحب ّلتكون الرّابط بين النّاس. والّذي يحبّ سيضحّي
بالغالي والنّفيس لإسعاد من يحبّ. هذا الّذي سيقلّص من أنانيّة الإنسان
و يحفظه من الأثرة المؤدّية إلى الانشغال بشره الذّات، و استخدام المال
والوقت و كلّ الطّاقات لتغذية مثل هذا الشّره ، و إن اقتضى ذلك ظلم غيره
والاعتداء عليه.

و ينتهي به الحال إلى العجز عن الودّ،
و يؤول الأمر إلى الجفاف في العلاقات..

و بقدر درجة الإنسان في معرفة ربّه تكون درجته في محبّته سبحانه،
و بقدر هذه الدّرجة يسعى إلى شكر خالقه على ما أغدق عليه من نعم،
فيحرص على طاعته و الاستجابة لإرشاده تعالى، وينبثق عن هذا حسن
التّعامل مع المخلوقات. و أعرف النّاس باللّه رسول اللّه و هو أعبدهم له،
و لذلك قرنت محبّة اللّه بمحبّة الرّسول عليه الصّلاة و السّلام. و من فروع
محبّة اللّه و رسوله محبّة الصّحابة عليهم رضوان اللّه، و محبّة المؤمنين
عموما، و كراهية مسّ النّاس بالضّرر. يقول الرّسول عليه الصّلاة
و السّلام:

" و الّذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا،
و لا تؤمنوا حتّى تحابّوا..." ( مسلم )"

و من ثمار المحبّة التّراحم و التّكافل و تنفيس الكروب و المواساة و التّعاون
على صلاح الدّنيا والآخرة. و أعلى هذه الثّمار الإيثار والتّضحية
في سبيل إسعاد الآخرين.

لم تر الدّنيا حبّا أصيلاً يعلو على الشّهوة و المصلحة و المنفعة كالحبّ الّذي
أرسى الإسلام ركائزه بين الرعيل الأوّل من المسلمين. و إذا ما أراد الإنسان
العلوّ إلى مثل هذه الدّرجات من الودّ و الأخوّة، فلا طريق يوصله غير فتح
منافذ قلبه لتُسقى بمثل هذه الأصالة.


ابتكر الإنسان المعاصر الآليّات الرّقميّة وكثرت أعياده و اختلق المناسبات
المتكرّرة والعديدة، و مع ذلك غابت عن حياته اللّقاءات النّابضة بالحبّ
أو تكاد..! لن تفلح الآليّات المبتكرة بمفردها في الرّقيّ بحال النّاس إلى
التّآزر العادل، و لن تنبت تواصلا ينبض حبّا و ينتج تعاملا إيجابيّا راقيا على
أرض الواقع، ما دام الإنسان بعيداً عن منبع الحبّ ذاته، عن خالقه؛
و إذا كان هذا حاله فستظلّ الأثرة تهيمن على حياته، ولن تُعوِّض أبدا
العلاقاتُ الافتراضيّةُ العلاقاتِ الحقيقيّةَ المباشرة، و سيعيش الفرد الجفاف
في علاقاته مهما اختلق وابتكر من وسائل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق