من البداية و النهاية لابن كثير رحمه
الله
قال الله تعالى في سورة الكهف بعد قصة
أهل الكهف:
{
وَاضْرِبْ
لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا
(32)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ
أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ
لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا
(34)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ
قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا
(36)
}
{ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ
الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }
[الكهف: 32-44].
قال بعض الناس: هذا مثل مضروب ولا
يلزم أن يكون واقعاً،
والجمهور أنه أمر قد وقع.
وقوله:
يعني: لكفار قريش في عدم اجتماعهم
الضعفاء والفقراء وازدرائهم بهم،
وافتخارهم عليهم
كما قال تعالى:
[يس: 13].
كما قدمنا الكلام على قصتهم قبل قصة
موسى عليه السلام، والمشهور أن
هذين كانا رجلين مصطحبين وكان أحدهما
مؤمناً والآخر كافراً، ويقال إنه
كان لكل منهما مال فأنفق المؤمن ماله
في طاعة الله ومرضاته
ابتغاء وجهه. (ج/ص: 2/ 140)
وأما الكافر فإنه اتخذ له بساتين وهما
الجنتان المذكورتان في الآية
على الصفة والنعت المذكور، فيهما
أعناب ونخيل تحف تلك الأعناب
الزروع في ذلك، والأنهار سارحة ههنا
وههنا للسقي والتنزه،
وقد استوثقت فيهما الثمار واضطربت
فيهما الأنهار،
وابتهجت الزروع والثمار، وافتخر
مالكهما على صاحبه المؤمن الفقير
قائلاً له:
أي: أوسع جناناً، ومراده أنه خير
منه ومعناه ماذا
أغنى عنك إنفاقك ما كنت تملكه في
الوجه الذي صرفته فيه،
كان الأولى بك أن تفعل كما فعلت لتكون
مثلي، فافتخر على صاحبه.
أي: وهو على غير طريقة مرضية
{ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
هَذِهِ أَبَداً }
وذلك لما رأى من اتساع أرضها، وكثرة
مائها، وحسن نبات أشجارها،
ولو قد بادت كل واحدة من هذه الأشجار
لاستخلف مكانها
أحسن منها وزروعها دارة لكثرة مياهها.
ثم قال:
فوثق بزهرة الحياة الدنيا الفانية،
وكذب بوجود الآخرة الباقية الدائمة،
ثم قال:
{ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً }
أي: ولئن كان ثم آخرة ومعاد، فلأجدن
هناك خيرا من هذا وذلك،
لأنه اغتر بدنياه واعتقد أن الله لم
يعطه ذلك فيها إلا لحبه له
وحظوته عنده.
كما قال العاص بن وائل فيما قص الله
من خبره،
وخبر خباب بن الأرت في قوله:
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }
[مريم: 77-78].
وقال تعالى إخباراً عن الإنسان إذا
أنعم الله عليه:
{ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا
أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}
[فصلت: 50].
قال الله تعالى:
وقال قارون:
أي: لعلم الله بي أني أستحقه.
قال الله تعالى:
{أَوَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً
وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ
عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
[القصص: 78]
وقد قدمنا الكلام على قصته في أثناء
قصة موسى.
وقال تعالى:
{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحاً
فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ
الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ }
[سبأ: 37].
وقال تعالى:
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا
نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ *
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل
لَا يَشْعُرُونَ }
[المؤمنون: 25].
ولما اغتر هذا الجاهل بما خول به في
الدنيا، فجحد الآخرة
وادعى أنها إن وجدت ليجدن عند ربه
خيرا مما هو فيه،
وسمعه صاحبه يقول ذلك قال له:
{ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ }
{ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ
مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً }
أي: أجحدت المعاد وأنت تعلم أن
الله خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم
صورك أطوارا حتى صرت رجلاً سوياً
سميعاً بصيراً تعلم وتبطش وتفهم،
فكيف أنكرت المعاد والله قادر على
البداءة؟
أي: لكن أنا أقول بخلاف ما قلت
وأعتقد خلاف معتقدك.
(ج/ص: 2/ 141)
أي: لا أعبد سواه، وأعتقد أنه يبعث
الأجساد بعد فنائها،
ويعيد الأموات، ويجمع العظام الرفات،
وأعلم أن الله لا شريك له في خلقه ولا
في ملكه ولا إله غيره،
ثم أرشده إلى ما كان الأولى به أن
يسلكه عند دخول جنته
فقال تعالى :
ولهذا يستحب لكل من أعجبه شيء من
ماله أو أهله أو حاله
أن يقول كذلك:
ثم قال المؤمن للكافر:
أي: في الدار الآخرة ويرسل عليها
حسباناً من السماء.
قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة: أي
عذاباً من السماء،
والظاهر أنه المطر المزعج الباهر الذي
يقتلع زروعها وأشجارها
وهو التراب الأملس الذي لا نبات فيه،
{ وْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً }
وهو ضد المعين السارح
يعني: فلا تقدر على استرجاعه.
قال الله تعالى:
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ }
أي: جاءه أمر أحاط بجميع حواصله،
وخرب جنته ودمرها
أي: خربت بالكلية فلا عودة لها،
وذلك ضد ما كان عليه أمل حيث
قال الله تعالى:
وندم على ما كان سلف منه من القول
الذي كفر بسببه بالله العظيم
فهو يقول:
قال الله تعالى:
{
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ
مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ ... }
أي: لم يكن أحد يتدارك ما فرط من
أمره وما كان له قدرة في نفسه على شيء من ذلك
كما قال تعالى:
وقوله:
{ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
}
ومنهم من يبتدئ بقوله
وهو حسن أيضاً لقوله:
[الفرقان: 26]. (ج/ص:
2/ 142).
فالحكم الذي لا يرد ولا يمانع ولا
يغالب في تلك الحال،
وفي كل حال لله الحق. ومنهم من رفع
الحق جعله صفة للولاية
وهما متلازمتان.
{ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ
عُقْباً }
أي: معاملته خير لصاحبها ثواباً وهو
الجزاء،
{ وَخَيْرٌ عُقْباً }
وهو العاقبة في الدنيا والآخرة.
وهذه القصة تضمنت أنه لا ينبغي لأحد
أن يركن إلى الحياة الدنيا
ولا يغتر بها، ولا يثق بها، بل يجعل
طاعة الله والتوكل
عليه في كل حال نصب عينيه، وليكن بما
في يد الله أوثق منه بما في يديه،
وفيها أن من قدم شيئاً على طاعة الله
والإنفاق في سبيله عذب به،
وربما سلب منه معاملة له بنقيض
قصده.
وفيها أن الواجب قبول نصيحة الأخ
المشفق، وأن مخالفته
وبال ودمار على من رد النصيحة
الصحيحة. وفيها
أن الندامة لا تنفع إذا حان القدر
ونفذ الأمر الحتم، بالله المستعان وعليه التكلان.
والله جل جلاله أعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق