الأربعاء، 5 يونيو 2013

المُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطَ كلابِسِ ثَوْبَي زُورٍ

عن ‏أسماء بنت أبي بكر ‏رضى الله تعالى عنها و عن أبيها قالت :
 
‏[ جاءت امرأة إلى النبي ‏صلى الله عليه و سلم ،
فقالت : يا رسول الله ! إن لي ضرة
فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني

فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
 
( المُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطَ كلابِسِ ثَوْبَي زُورٍ ) ]
 
متفق عليه . غريب الحديث
المتشبّع : المتزيّن بما ليس عنده ، يتكثّر بذلك و يتزيّن بالباطل .
 
قصة الحديث
 
تروي أسماء بنت أبي بكر رضى الله تعالى عنها و عن أبيها موقفًا حدث أمامها ،
و هو أن امرأة جاءت إلى النبي ‏صلى الله عليه و سلم تترخص منه
في كذبها على ضرتها أو جارتها - كما في بعض الروايات الأخرى - ،
لتظهر أن زوجها يحبها أكثر ، أو أنه يسعد في ليلتها أكثر من الأخرى ،
أو تتظاهر بالغنى أمام جارتها ، فلم يرخص لها في ذلك ، بل نهاها عنه ،
و قال : المُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَي زُورٍ
 
شرح الحديث
 
قال الإمام النووي يرحمه الله عند شرح هذا الحديث :
 
" قال العلماء : معناه المتكثر بما ليس عنده ،
بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده ، يتكثر بذلك عند الناس ،
و يتزين بالباطل ، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور "
 
قال أبو عبيد و آخرون :
 
" هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد و العبادة و الورع ،
و مقصوده أن يُظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة ،
و يُظهر من التخشع و الزهد أكثر مما في قلبه ، فهذه ثياب زور و رياء ،
و قيل : هو كمن لبس ثوبين لغيره و أوهم أنهما له ،
و قيل هو من يلبس قميصاً واحداً و يصل بكميه كمين آخرين ،
فيظهر أن عليه قميصين " .
 
و حكى الخطابي قولاً آخر : أن المراد هنا بالثوب :
 
" الحالة و المذهب ، و العرب تكني بالثوب عن حال لابسه ،
و معناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن " .
 
و قول آخر :
 
" أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور ، فيلبس ثوبين يتجمل بهما ،
فلا ترد شهادته لحسن هيئته ، و الله أعلم " .
 
و بوَّب الإمام البخاري يرحمه الله على هذا الحديث بقوله :
 
" المتشبِّع بما لم ينل ، و ما يُنهى من افتخار الضَّرَّة " .
 
و قال الإمام ابن حجر في " الفتح " :
 
" قوله المتشبع : أي المتزين بما ليس عنده ، يتكثر بذلك و يتزين بالباطل ،
كالمرأة تكون عند الرجل و لها ضرة ، فتدعى من الحظوة عند زوجها أكثر مما عنده ،
تريد بذلك غيظ ضرتها ، و كذلك هذا في الرجال ،
و أما قوله : كلابس ثوبي زور ،
فإنه الرجل يلبس الثياب المشبهة لثياب الزهاد ، يوهم أنه منهم ،
و يُظهر من التخشع و التقشف أكثر مما في قلبه منه .. " .
 
وقفات مع المثل
 
" يحذرنا النبي صلى الله عليه و سلم بهذا المثل من داء خطير يصيب بعض الناس ،
ألا و هو داء التعالم و التعاظم و الادعاء بما ليس في الإنسان ،
و بما لا يملكه ؛ من ادعاء العلم و هو ليس بعالم ، و ادعاء الغنى و هو ليس بغني ،
و ادعاء الجاه و الوجاهة و هو ليس من أصحابها ،
و ادعاء الإمارة و هو ليس من أهلها ، و ادعاء الصلاح و هو ليس من أهله .
و التثنية في قوله " ثَوْبَي زُورٍ" للإشارة إلى أن كذب المتحلِّي مثنَّى ؛
لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ ، و على غيره بما لم يُعطَ ،
و كذلك شاهد الزور ، يظلم نفسه ، و يظلم المشهود عليه .
وقد أراد النبي صلى الله عليه و سلم بذلك تنفير المرأة عمَّا ذكرت ؛
خوفاً من الإفساد بين زوجها و ضرتها ، و إيقاع البغضاء بينهما ،
فيصير كالسحر الذي يفرِّق بين المرء و زوجه .
 
التعالم و ضرره
 
هذا الحديث ينطبق على ظاهرة متنامية في زماننا هذا ، ألا و هي :
اقتحام عدد من الناس المجالات الشرعية بالفتيا و التنظير ،
و بالاعتراض على الأحكام الشرعية ، مع عدم اتصاف أولئك بالعلم الذي يؤهلهم
- و لو بقدر أدنى - للخوض في هذه المسائل ،
و ليس في ذلك تحجير على الناس في دينهم ،
أو سير وفق المصطلح الخاطئ الذي يصف البعض بأنهم ( رجال الدين ) !!
و لكنه الاحتياط للدين أن يهتك حماه من ليس أهلاً للتوقيع عن رب العالمين .
 
و لقد حذرنا الله تعالى من ذلك في كتابه الكريم فقال :
 
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا
وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
 
الأعراف : 33
 
قال ابن الجوزي :
 
" و هذه الآية في تحريم القول في الدين إلا عن بينة و يقين " .

قال الإمام الشعبي :
 
" إن أحدكم ليُفتي في المسألة ،
و لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجمع لها أهل بدر "
 
و قال الإمام مالك :
 
" من أجاب في مسألة ،
فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة و النار ،
و كيف خلاصُه ، ثم يجيب " .
 
و لقد كان فقهاء الإسلام الأجلاء يحذرون من التعالم و التجرؤ على الفتيا
و على القول على الله بغير علم ،
فقد جاء عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه
أنه سُئل ثمانية و أربعين سؤالاً ، فأجاب عن ستة ،
و قال عن البقية : لا أدري .
 
و هؤلاء المتعالمون و المتشبعون بما لم يعطوا لهم صفات منها :
 
1 - زهدهم في الجلوس إلى من هو دونهم ، أو في مرتبتهم في العلم ،
لئلا يُنسبوا للجهل و قلة العلم .
 
2 - جرأتهم على الفتيا ، و هجومهم عليها دون ورع أو تقوى ،
فقلما يقول أحدهم : لا أدري ، حينما يُسأل لئلا ينسب للجهل ،
فيفضّ عنه العامة .
 
3 - تعلقهم بالدنيا و أهلها ، و طلب المنزلة عندهم ،
و ربما قدَّموهم على إخوانهم من المؤمنين ،
لينالوا عندهم عرضاً من الدنيا الفانية .
 
فالحذر الحذر من التشبع بما لم تعط ،
حتى لا تكون ممن يلبس ثوبي الزور ، فيبيع آخرته بدنياه ،
فيخسرهما جميعاً ،
نسأل الله جل و علا أن يجنبنا الزلل في القول و العمل .
و بالله التوفيق .
و الله أعلى و أعلم و أجَلَّ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق