عن أسماء بنت أبي بكر رضى الله تعالى عنها و عن
أبيها قالت :
[ جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم
،
فقالت : يا رسول الله ! إن لي
ضرة
فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي
يعطيني
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
:
( المُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطَ كلابِسِ ثَوْبَي
زُورٍ ) ]
متفق عليه . غريب الحديث
المتشبّع : المتزيّن بما ليس عنده ، يتكثّر بذلك و
يتزيّن بالباطل .
قصة الحديث
تروي أسماء بنت أبي بكر رضى الله تعالى عنها و عن
أبيها موقفًا حدث أمامها ،
و هو أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم
تترخص منه
في كذبها على ضرتها أو جارتها - كما في بعض الروايات
الأخرى - ،
لتظهر أن زوجها يحبها أكثر ، أو أنه يسعد في ليلتها
أكثر من الأخرى ،
أو تتظاهر بالغنى أمام جارتها ، فلم يرخص لها في ذلك
، بل نهاها عنه ،
و قال : المُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ
ثَوْبَي زُورٍ
شرح الحديث
قال الإمام النووي يرحمه الله عند شرح هذا الحديث
:
" قال العلماء : معناه المتكثر بما ليس عنده ،
بأن يظهر أن عنده ما ليس عنده ، يتكثر بذلك عند الناس
،
و يتزين بالباطل ، فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي زور
"
قال أبو عبيد و آخرون
:
" هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد و العبادة و الورع ،
و مقصوده أن يُظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة ،
و يُظهر من التخشع و الزهد أكثر مما في قلبه ، فهذه
ثياب زور و رياء ،
و قيل : هو كمن لبس ثوبين لغيره و أوهم أنهما له ،
و قيل هو من يلبس قميصاً واحداً و يصل بكميه كمين
آخرين ،
فيظهر أن عليه قميصين " .
و حكى الخطابي قولاً آخر : أن المراد هنا بالثوب
:
" الحالة و المذهب ، و العرب تكني بالثوب عن حال
لابسه ،
و معناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن "
.
و قول آخر :
" أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور ، فيلبس
ثوبين يتجمل بهما ،
فلا ترد شهادته لحسن هيئته ، و الله أعلم "
.
و بوَّب الإمام البخاري يرحمه الله على هذا الحديث
بقوله :
" المتشبِّع بما لم ينل ، و ما يُنهى من افتخار
الضَّرَّة " .
و قال الإمام ابن حجر في " الفتح "
:
" قوله المتشبع : أي المتزين بما ليس عنده ، يتكثر
بذلك و يتزين بالباطل ،
كالمرأة تكون عند الرجل و لها ضرة ، فتدعى من الحظوة
عند زوجها أكثر مما عنده ،
تريد بذلك غيظ ضرتها ، و كذلك هذا في الرجال ،
و أما قوله : كلابس ثوبي زور ،
فإنه الرجل يلبس الثياب المشبهة لثياب الزهاد ، يوهم
أنه منهم ،
و يُظهر من التخشع و التقشف أكثر مما في قلبه منه ..
" .
وقفات مع المثل
" يحذرنا النبي صلى الله عليه و سلم بهذا المثل من
داء خطير يصيب بعض الناس ،
ألا و هو داء التعالم و التعاظم و الادعاء بما ليس في
الإنسان ،
و بما لا يملكه ؛ من ادعاء العلم و هو ليس بعالم ، و
ادعاء الغنى و هو ليس بغني ،
و ادعاء الجاه و الوجاهة و هو ليس من أصحابها ،
و ادعاء الإمارة و هو ليس من أهلها ، و ادعاء الصلاح
و هو ليس من أهله .
و التثنية في قوله " ثَوْبَي زُورٍ" للإشارة إلى أن
كذب المتحلِّي مثنَّى ؛
لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ ، و على غيره بما لم
يُعطَ ،
و كذلك شاهد الزور ، يظلم نفسه ، و يظلم المشهود عليه
.
وقد أراد النبي صلى الله عليه و سلم بذلك تنفير
المرأة عمَّا ذكرت ؛
خوفاً من الإفساد بين زوجها و ضرتها ، و إيقاع
البغضاء بينهما ،
فيصير كالسحر الذي يفرِّق بين المرء و زوجه
.
التعالم و ضرره
هذا الحديث ينطبق على ظاهرة متنامية في زماننا هذا ،
ألا و هي :
اقتحام عدد من الناس المجالات الشرعية بالفتيا و
التنظير ،
و بالاعتراض على الأحكام الشرعية ، مع عدم اتصاف
أولئك بالعلم الذي يؤهلهم
- و لو بقدر أدنى - للخوض في هذه المسائل ،
و ليس في ذلك تحجير على الناس في دينهم ،
أو سير وفق المصطلح الخاطئ الذي يصف البعض بأنهم (
رجال الدين ) !!
و لكنه الاحتياط للدين أن يهتك حماه من ليس أهلاً
للتوقيع عن رب العالمين .
و لقد حذرنا الله تعالى من ذلك في كتابه الكريم فقال
:
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا
وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
}
الأعراف : 33
قال ابن الجوزي :
" و هذه الآية في تحريم القول في الدين إلا عن بينة و
يقين " .
قال الإمام الشعبي :
" إن أحدكم ليُفتي في المسألة ،
و لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجمع
لها أهل بدر "
و قال الإمام مالك :
" من أجاب في مسألة ،
فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة و النار ،
و كيف خلاصُه ، ثم يجيب "
.
و لقد كان فقهاء الإسلام الأجلاء يحذرون من التعالم و
التجرؤ على الفتيا
و على القول على الله بغير علم ،
فقد جاء عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه
أنه سُئل ثمانية و أربعين سؤالاً ، فأجاب عن ستة ،
و قال عن البقية : لا أدري
.
و هؤلاء المتعالمون و المتشبعون بما لم يعطوا لهم
صفات منها :
1 - زهدهم في الجلوس إلى من هو دونهم ، أو في مرتبتهم
في العلم ،
لئلا يُنسبوا للجهل و قلة العلم
.
2 - جرأتهم على الفتيا ، و هجومهم عليها دون ورع أو
تقوى ،
فقلما يقول أحدهم : لا أدري ، حينما يُسأل لئلا ينسب
للجهل ،
فيفضّ عنه العامة .
3 - تعلقهم بالدنيا و أهلها ، و طلب المنزلة عندهم ،
و ربما قدَّموهم على إخوانهم من المؤمنين ،
لينالوا عندهم عرضاً من الدنيا الفانية
.
فالحذر الحذر من التشبع بما لم تعط ،
حتى لا تكون ممن يلبس ثوبي الزور ، فيبيع آخرته
بدنياه ،
فيخسرهما جميعاً ،
نسأل الله جل و علا أن يجنبنا الزلل في القول و العمل
.
و بالله التوفيق .
و الله أعلى و أعلم و أجَلَّ
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق