الخميس، 17 يونيو 2021

موسوعة المؤرخين (56)

 

موسوعة المؤرخين (56)


حاجي خليفة وكتابه كشف الظنون (الجزء الأول)
حاجي خليفة أو كاتب جلبي صاحب كتاب كشف الظنون في أسامي الكتب
والفنون أشهر مؤلف في تاريخ الدولة العثمانية، ومن أهم الأعمال
الببليوجرافية، فمن هو حاجي خليفة؟ وما منهجه في كشف الظنون؟

من هو حاجي خليفة؟
هو مصطفى بن عبد الله، ويلقب بـ "حاج" (في الفارسية: حاجي) خليفة،
أو كاتب جلبي، من تركيا، ويتفق كل الذين ترجموا لحاجي خليفة على أنه ولد
في مدينة إستانبول في ذي القَعدة سنة 1017هـ / فبراير- مارس سنة
1608م. وكانت إستانبول خلال هذه الفترة عاصمة سلاطين آل عثمان وقد
عرفت ازدهارا كبيرا، وتألق نجمها بعد أن أصبحت مركز الخلافة الإسلامية.
فازدهرت بها حياة العمران بعد الفتور الذي أصابها بعد الفتح مباشرة،
الذي كان سنة 857هـ / 1453م فما هي إلا مدة قصيرة حتى أصبحت
إستانبول مدينة إسلامية بكل معاني الكلمة حيث أنشئت فيها المساجد
الفسيحة البالغة في الروعة والجلال والجمال، وأخذ سلاطين آل عثمان
يتنافسون في البناء والتشييد، إلى غير ذلك من مظاهر الحضارة
الإسلامية التي عرفتها المدينة مسقط رأس حاجي خليفة.

فحاجي خليفة إذا ولد في أوج عظمة الدولة العثمانية، حيث عرفت
إستانبول بدورها أوج عزها ومجدها، وحضارتها، إلا أن الأوج أحيانا يكون
هو القمة التي يبدأ منها الانحدار، وإذا كان الصعود يحتاج عادة إلى بعض
الفترات الطويلة، فكثيرًا ما يكون الانحدار بسرعة مذهلة !


فمؤلفنا قد فتح عينه على مدينته الجميلة عاصمة الخلافة الإسلامية،
وهي زاهية بمآثرها وعمرانها وحضارتها الإسلامية، وبنظام بلاطها
وبأنظمة الجيش فيها التي تتمثل في استعراضاته وقوته، وأسطوله وأسلحته
وبنوده، وراياته وألبسته بذلات ضباطه وقواده .. وفي موسيقاه الصاخبة
التي تردد صداها المدينة وضواحيها، ذلكم الجيش الذي كان مزهرا
بانتصاراته في كل الجهات، وفي جميع ميادين الحروب.

فتح حاجي خليفة عينيه على هذا وأكثر من هذا في طفولته، وهو قد شب
وقرعرع في عهد السلطان مراد الرابع (سابع عشر سلاطين بني عثمان)،
الذي تربع على عرش الخلافة العثمانية ما بين سنتي 1032هـ / 1623م
و 1050هـ / 1640م، وهو آخر سلطان خرج إلى الحرب بنفسه.

وإذا كان مؤلفنا قد فتح عينيه على مظاهر الازدهار والعمران وقوة
الجيش فإن تلك المظاهر سرعان ما بدأت تتخذ المظهر الصوري، وكانت
نتيجة لقوة الدفع التي بدأت مع تأسيس الإمبراطورية.

ومن المعروف أن عهد الضعف في الإمبراطورية العثمانية يبتدئ بعد
موت السلطان سليمان القانوني، في منتصف القرن عشر الميلادي سنة
952هـ / 1546م والذي خلفه ولده سليم الثاني. وفي عهد سليم هذا أصيب
الأتراك بأول انهزام حربي مؤلم ومؤثر كان له ما بعده، وذلك في معركة
ليبانتو الشهيرة سنة 979هـ / 1571م بواسطة الأسطولين الإسباني
والبندقي. وفي عهد السلطان مراد الثالث (982هـ - 1003هـ / 1574م –
1595م) بدأت سيطرة الحريم والمحظيات على شؤون الدولة.

حاجي خليفة في عهد السلطان مراد الرابع
أما في عهد مراد الرابع الذي عايشه حاجي خليفة والذي سنرى أنه كان
من بين مستخدميه في الجيش في هذا العام هجم الفرس على بغداد، وثار
الأمراء لتحرير الأقاليم ومنهم الأمير فخر الدين "المعني" الذي أراد تحرير
لبنان، واستطاع الفرس بزعامة عباس الأول شاه فارس أن يستولوا
على بغداد لفترة من الوقت.

وإذا كان مراد الرابع قد استطاع أن يسترجع بغداد بعد صعوبات جمة
وحروب طاحنة، فإننا سنرى أن نفسية الجيش كانت متضعضعة،
وفي الحروب مع عباس هذا، وذاق مؤلفنا ويلات الحروب، وذاق مرارة
الحصار تسعة أشهر كاملة.

ولتترك المؤلف يحدثنا بنفسه عن ذلك إذ يقول:
"سافرت سرة مع والدي، وقاسيت الشدائد في المحاصرة تسعة أشهر من
الحرب والقتال، وانقطاع الآمال باستيلاء القحط والغلاء وغلبة الأعداء،
ولكن البلية إذا عمت طابت ذلك تقدير العزيز العليم، ولما رجعنا ميئوسين
مخدولين ودخلنا الموصل مات والدي في يوم من أيام ذي القعدة سنة
1035هـ وسنه في حدود الستين، ودفن في مقابر الجامع الكبير ومات عمي
بعد شهر". وهكذا نرى أن المشاكل بدأت تتسرب إلى جسم الدولة العثمانية،
وكانت عظمة مراد الرابع "كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد"، بالرغم
من أنه كان مفتول العضلات، شديد القسوة.

وحاجي خليفة قد شاهد حربا أخرى قبل هذه، وهو لا يزال طري العود صغير
السن في بداية طور المراهقة لا يتجاوز عمره السادسة عشرة سنة، وإلى
ذلك يشير بقوله : "لما خرجت العساكر إلى قتال إبرازه باشا سنة 1033هـ
سافرت مع أبي وشاهدت الحرب الواقعة في تلك السنة بناحية قيصرية (قرية
بشمال سوريا)". والمؤلف في ترجمته لنفسه يتعرض للأحداث التي يراها
مؤثرة في حياته، والتي علقت بذهنه من أجل ذلك، ولا شك أن هذه الأحداث
لها أهميتها في واقع الأمر.

وفي هذه السفرة بالذات قد نستعرض كيف أخذه أبوه معه في الحملة
العسكرية وهو في هذه السن المبكرة ؟! لكن يبدو أن أباه كان في حاجة إليه،
ليساعده وليؤنسه.

ويؤكد هذا الاحتمال موت أبيه في الحملة الموالية مباشرة والتي سبقت
الإشارة إليها، فكانت عاطفة الأب الشيخ متأججة نحو طفله، ولذلك فهو يريد
أن يجعل منه رجلا صلب العود قبل الأوان، ويريد كذلك أن يتلذ بمعاشرته
إياه، ويريد أن يدربه في نفس الوقت على شؤون الوظيفة.

ومهما يكن من أمر فإن هذه الحملة نفسها تصور لنا كذلك مقدار التضعضع
الذي بدا يصيب هذا الكيان الضخم، كيان الإمبراطورية العثمانية
الواسعة الأرجاء.

فالمؤلف في هذا النص يشير إلى الحرب التي دارت رحاها في شمال سوريا
واستغرقت حوالي سنة، والتي ثار فيها إبرازه باشا القبران حاكم مرعش
وأرضروم وبعد حرب طاحنة تغلب جيش السلطان مراد الرابع،
على إبرازه باشا وأمر بقتله ولم يشفه لإبرازه باشا عند السلطان
ما كان من حسن بلائه في حروب بولونيا !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق