السبت، 10 أبريل 2021

موسوعة المؤرخين (24)

 
موسوعة المؤرخين (24)



عز الملك المسبحي (الجزء الأول)

نسبه ونشأته
هو الأمير المختار، عز الملك، محمد بن أبي القاسم عبيد الله بن أحمد
بن إسماعيل (وقيل: إدريس) بن عبد العزيز، المعروف بـ المُسَبِّحيّ، الكاتب،
الحرّاني الأصل، المصري المولد والنشأة. ولد بمصر حسبما ذكر في تاريخه
ونقل إلينا الرواة المتأخرون في العاشر من رجب سنة 366هـ / 977م.

وأما نسبه "المُسَبِّحيّ" فقال السمعاني في الأنساب: "المسبحي: بضم
الميم وفتح السين المهملة وبعدها الباء المنقوطة بواحدة وفي آخرها الحاء،
هذه النسبة إلى الجد، وهو اسم لبعض أجداد المنتسب إليه، والمشهور بها
محمد بن عبيد الله بن أحمد بن إدريس المسبحي، صاحب تاريخ المغاربة
ومصر، قال ابن ماكولا: رأيت التاريخ عند فخر الدولة نقيب الطالبين بها،
وهو كتاب كبير جدا".

والمسبحي سليل أسرة حّرانية نزحت إلى مصر قبل قيام الدولة العبيدية
الفاطمية، واستوطنت مصر وسطعت فيها؛ وكان إحدى هاته الشخصيات
القوية البارزة التي كانت الدولة الفاطمية إبان قوتها وفتوتها، تحشدها
حولها، وتوليها ثقتها وعطفها، وتؤثر أن تختارها من غير المصريين
البلديين. بيد أن المسبحي كان مصريًا بمولده، مصريًا بتربيته وبيئته.

ولا يٌعرف شيء عن حياته الأولى، ولا عن تربيته وتكوينه، ولكن يبدو
من آثاره التي نسبت إليه، والتي وصل القليل منها، أنه تلقى ثقافة أدبية
علمية واسعة متعددة النواحي، كذلك يظهر أن المسبحي بدأ حياته العامة
جنديًا ورجل إدارة؛ لأنه كان يرتدي زي الجند، ولأنه تقلد بعض المناصب
الإدارية الهامة.

المسبحي والحاكم بأمر الله العبيدي
وقد ذكر لنا المسبحي في تاريخه، أن اتصاله بخدمة الحاكم بأمر الله
العبيدي الفاطمي حاكم مصر يرجع إلى سنة 398هـ، وذكر فيه أيضًا أنه
تقلَّب قبل ذلك في بعض الوظائف الهامة، فتقلد أعمال القيس (الفيوم)
والبهنسا من أعمال الصعيد، ثم تولى ديوان الترتيب وهو يومئذ من مناصب
الوزارة الهامة، ثم اصطفاه الحاكم بأمر الله وعينه في بطانته الشخصية
في سنة 398هـ. وكان الحاكم يومئذ فتى في نحو الثالثة والعشرين من
عمره، ولكنه كان في ذروة القوة والسلطان والبطش، والتي فتك فيها الحاكم
بكثير من الوزراء ورجال الدولة (سنة 395 - 400هـ). ويروى لنا
المسبحي نفسه في تاريخه طائفة من الحوادث الدموية التي شهدها في هذا
العهد، وكان الحاكم دائم الفتك بالزعماء والكبراء لأسباب تتصل بسياسته
العامة أو لريب ومخاوف تساوره.

ولكن المسبحي تبوأ لدى الحاكم مركزًا من النفوذ والثقة لا تتطاول إليه
الشكوك والريب، ولا تتجه إليه النقمة الغادرة، بل يظهر أن المسبحي كان
من أخص خواص الحاكم، ويقول لنا ابن خلكان إن المسبحي نال لدى الحاكم
حظوة وسعادة، وإنه كانت له مع الحاكم مجالس ومحاضرات حسبما يشهد
بها تاريخه الكبير، وتبدو دلائل هذه الصداقة التي توثقت عراها بين الحاكم
والمسبحي في كثير مما يرونه المؤرخ في تاريخه وينقله عنه الكتاب
المتأخرون مثل المقريزي وابن تغرى بردى عن عصر الحاكم بأمر الله،
وعن أحواله وتصرفاته الشخصية، ففي كثير من هذه المواطن
يبدو المسبحي الصديق المخلص والمستشار الأمين.

وهذه حقيقة تلفت النظر، فإن الحاكم كان أميرًا خطر النزعات عنيف الأهواء،
وقلما نجا من نقمته أحد من رجال الدولة الذين خدموه. بيد أن الإمام الذهبي
يقدم إلينا في تاريخه (العبر في خبر من غبر) تعليلًا لهذه الظاهرة، هو أن
المسبحي "كان رافضيًا جاهلًا". والروافض فرقة من غلاة الشيعة تغلو في
حب علي بن أبي طالب وفي بغض أبي بكر وعثمان ومعاوية رضي الله عنهم
ومن إليهم. وهنا نلمس سر هذه الصداقة التي توثقت بين المؤرخ وأميره،
فقد كان الحاكم، جريًا على سنة آبائه، يصطفى غلاة الشيعة أبناء مذهبه
ويوليهم مناصب النفوذ والثقة، وكان المسبحي يتمتع فوق صفته المذهبية
بخلال باهرة تضاعف مكانته، فقد كان عارفًا بعلوم عصره، وكان راوية
ومحدثًا ساحرًا، وكان أيضًا شغوفًا بعلم النجوم الذي يشغف به الحاكم بأمر
الله، وقد وضع فيه أكثر من مؤلف، وهذه كلها عوامل وظروف تلقي أكبر
الضياء على طبيعة هذه الحظوة التي نالها المؤرخ في بلاط الحاكم بأمر الله.

وقد وظلّ المسبحي ذا حظوة حتى وفاة الحاكم بأمر الله سنة 411هـ،
ولا نعرف ماذا كانت صلة المسبحي بالبلاط الفاطمي في الأعوام التالية،
والظاهر أنه اعتزل الحياة العامة وانقطع للبحث والكتابة. ووضع كثيرًا
من مؤلفاته في هذه الفترة التي امتدت تسعة أعوام أخرى حتى وفاته
في شهر ربيع الثاني سنة 420هـ / 1029م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق