الأحد، 4 أبريل 2021

موسوعة المؤرخين (18)

 موسوعة المؤرخين (18)



صاعد الأندلسي (الجزء الثاني)
صاعد الأندلسي، فقيه وعالم ومؤرخ وقاض، هو أبو القاسم صاعد بن أحمد
بن عبد الرحمن التغلبي، من قبيلة تغلب التي استوطنت الأندلس بعد الفتح
الإسلامي، ولد مؤلفنا في مدينة "المرية" في عام 420هـ، وبدأ تحصيله
العلمي في قرطبة وأكمله في طليطلة، تتلمذ على يد ابن حزم الفقيه والعالم
الشهير، تولى قضاء "طليطلة".

كتب عدة مؤلفات أخرى بخلاف "طبقات الأمم"، منها كتاب عن الفلك،
وكتاب آخر بعنوان "جوامع أخبار الأمم من العرب والعجم"، وكتاب ثالث
عن ديانات الشعوب الأخرى، استفاد صاعد من ازدهار "طليطلة" العلمي
في عصره وتوافر المصادر التي تؤرخ وتحلل ثقافات الأمم المختلفة،
وتوفي صاعد في عام 462هـ.

العرب
وعندما يتحدث صاعد عن العرب، تجد فيه تلك القدرة على الدمج بين ما هو
تاريخي وما هو اجتماعي. فالعرب إما بائدة أو باقية، الفرقة الأولى تضم
"عاد وثمود وطسم وجديس والعمالقة وجرهم"، وهؤلاء ينتمون إلى
الماضي السحيق الذي لا زال الكثير من الباحثين يشتغلون عليه، وأما الفرقة
الثانية فتعود جذورها إلى جدّين: عدنان وقحطان، والعرب عند صاعد مرة
ثانية ينقسمون إلى عرب ما قبل الإسلام، وعرب ما بعده، وهم مرة ثالثة
أهل مدر "مدن وقرى"، وأهل وبر "البادية".

ثم يسترسل في شرح عقائد العرب وعاداتهم على مدار قوس شبه الجزيرة
العربية واليمن، وبرغم اختلاف العقائد "كانت حمير تعبد الشمس، وكنانة
القمر"، إلا أن "جميع عبدة الأوثان من العرب موحدة لله تعالى"، ويستند
إلى النص القرآني حيث عبادة الأوثان كانت للتقرب زلفى إلى الله
"وجاء نص القرآن لمخالفتهم في البعث والنشور ونبوة محمد
صلى الله عليه وسلم".

واللغة والشعر والخطب ليست الفنون التي تميز فيها العرب وحسب، ولكن
هناك أيضًا معرفة واسعة بأخبار الأمم الأخرى "ليس يوصل إلى خبر من
أخبار العرب والعجم إلا بالعرب ومنهم، وذلك أن من سكن بمكة من العماليق
وجرهم وآل السميدع وخزاعة أحاطوا بعلم العرب العاربة والفراعين العاتية
وأخبار أهل الكتاب. وكانوا يدخلون البلاد للتجارات فيعرفون أخبار الناس.
وكذلك من سكن الحيرة وجاور الأعاجم".

إذن هناك أكثر من رافد للمعرفة نتج عن تنوع سكاني في جزيرة العرب
ومجاورة للأمم الأخرى وتجول في مختلف البلدان للتجارة، وكانت هناك
أيضًا حاجة ضرورية للتعرف إلى الآخرين، يقول صاعد: "ولم يكن الملك
منهم يغزو إلا إذا عرف البلاد وأهلها"، هناك علم آخر برع فيه العرب
وهو مطالع النجوم، ومعرفة الكواكب المختلفة ومهاب الرياح.

مصر .. وعي متقدم
وتجد لدى صاعد أيضًا تلك الآراء المتناثرة في كتب المثقفين المصريين حول
تنوع الثقافة المصرية وقدرتها على امتصاص وهضم الثقافات الأخرى:
"وأما الأمة السادسة، وهي أهل مصر، كانوا أهل ملك عظيم وعز قديم في
الدهور الخالية والأزمان السالفة، وكانوا أخلاطًا من الأمم ما بين قبطي
ويوناني ورومي وعمليقي وغيرهم، إلا أن جمهرتهم قبط".

ثم يتحدث عن عظمة مدن مثل منف الفرعونية والإسكندرية في العصر
اليوناني والفسطاط في العهد الإسلامي. ولا يتورط صاعد في التاريخ
المصري وإنما يركز على العلوم: الرياضيات والكيمياء والفلك، ويختتم
حديثه عن مصر قائلًا: "ولا وصل إلينا من حكمتهم إلا القليل، الذي بالإضافة
إلى ما تشهد به آثارهم بصعيد مصر، ومصانعهم الجليلة بسائر نواحيها
من عجائب وغرائب دالة على سعة علمهم".

الروم واليونان
وصاعد على وعي كذلك بإسهام الروم في الحضارة الإنسانية، والأهم أنه
على وعي بذلك الخلط الذي وقع فيه بعض القدماء بين الروم واليونانيين:
"الروم أمة ضخمة فخمة الملوك، وكانت بلادهم مجاورة لبلاد اليونانيين
ولغتهم مخالفة للغتهم، فلغة اليونانيين الإغريقية ولغة الروم اللطينية
(اللاتينية)".

وهو يقارن بين علوم الأمتين، ويبدو تفوق اليونان في الحكمة والمنطق
والفلسفة، والروم أو الرومان في القانون والفنون والطب.

عوائق للتمدن
أما الأمم التي لم يكن لها نصيب من التحضر، فتلك البلدان التي تقع في
المناطق شديدة البرودة، ويرجع صاعد ذلك إلى قسوة المناخ التي تحرمهم من السير في طريق التمدن".

نوابغ العلماء العرب
بعد أن يتتبع صاعد تاريخ وإسهامات الأمم المتحضرة نتيجة لمعيارين
يهيمنان على الكتاب وهما العلم والأخلاق، يتفرغ لتتبع نوابغ العلماء العرب
في مختلف العلوم: الكيمياء والطبيعة والفلك والفلسفة واللغة .. إلخ.

هل كان صاعد يقول: إن العرب استفادوا من جميع العلوم المتاحة في
عصره، الإجابة نعم، حيث كثيرًا ما يسرد لعلوم أمة وفي سياق الحديث يشير
إلى أبرز من برع من العرب في هذه العلوم نتيجة للترجمة، أما سرده في
النصف الثاني من الكتاب لأعلام العلماء العرب فهو بمثابة تأكيد أن العرب
لم يكتفوا بالنقل والترجمة، ولم يكونوا مجرد وسيط حضاري يحفظ العلوم
القديمة حتى تأتي النهضة الأوروبية الحديثة لتستفيد منها، ولكنهم أخذوا
هذه العلوم وطوروها فيما يشبه الإبداع الخالص أو الأصيل.

لقد كان صاعد ابن عصره، القرن الخامس الهجري، وابن بيئته الأندلس
المنفتحة على مختلف ثقافات العالم، ولذلك لابد أن تأتي رؤيته الثقافية
صحية من دون عقدة الإحساس برغبة المغلوب في تقليد الغالب، أو النظر
بانبهار إلى ثقافات ومنتجات الآخرين الحضارية، أو نفي الآخر وسلبه
ما قدمه للإنسانية من إسهام يستفيد منه جميع البشر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق