تاريخ عمر بن عبد العزيز .. تاريخ نقي وصفحة بيضاء, ونبراس لمن أراد أن يرى
كيف يكون الحاكم العادل! عندما تـمت البيعة لأمير المؤمنين
عمر بن عبدالعزيز وهو لها كاره بكى وحوقل واسترجع قائلا:"لاحول ولا قوة إلا
بالله!
إنا لله وإنا إليه راجعون". وأحس أنها تبعة كبيرة, وحمل ثقيل أناخ على كاهله!
تأخذنا سيرة عمر بن عبد العزيز إلى قصة تحتاج
إلى وقفة لأخذ العبرة منها.
كان الخليفة عمر بن عبد العزيز قد ابتكر نظاما رائعا للبريد, يرسل إليه أفراد
الرعية
بموجبه شكاواهم ومظالـمهم من كل بلاد المسلمين وأمصارها الواسعة..
تبدأ حكاية فرتونة السوداء بكتاب رفعته إلى الخليفة في هذا البريد الذاهب من مصر
إلى الشام..
ربما كان كتابا يشبه الآلاف من كتب مماثلة تصل الخليفة من رعيته فيقرؤها بنفسه..
لكن ربما غرابة كتاب فرتونة وطرافته أعطياه مبررا قويا للخلود..
إذ سجلته أقلام الرواة, وتناقلته كتب التاريخ والسير والتراجم..
فمن هي فرتونة هذه؟ وما هي قصتها؟ وما مضمون
رسالتها؟
إنها رسالة من الجيزة بمصر, رسالة من أمة جارية, رسالة من فرتونة السوداء,
أرسلت بها إلى ولي أمر المسلمين وأميرهم تشتكي فيها سرقة دجاجها ...
فيهرع خليفة المسلمين
إلى نجدتها وحماية دجاجها, فقد كتبت واشتكت في كتابها
لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله- أن حائط دارها قصيرا متهدما،
يتسوره اللصوص ويسرقون دجاجها، وليس معها مال تنفقه في هذا السبيل.
تصل الرسالة إلى الخليفة في الشام, فيكتب على وجه السرعة كتابين..
الأول إلى واليه على مصر "أيوب بن شرحبيل" يخبره فيه بشكوى فرتونة,
أما الكتاب الآخر فكتبه الخليفة لفرتونة نفسها مطمئنا إياها,
وإليكم ما جاء في هذين الكتابين :
الى والي مصر أيوب بن
شرحبيل: بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى أيوب بن شرحبيل، سلام الله عليك.
أما بعد، فإن فرتونة السوداء، كتبت تشكو إلي قصر حائطها,
وأن دجاجها يسرق منها، وتسأل تحصينه لها،
فإذا جاءك كتابي هذا، فاركب إليها بنفسك وحصنه لها ".
وكتب إلى فرتونة: بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء:
سلام الله عليك، أما بعد، فقد بلغني كتابك وما ذكرت فيه من قصر حائطك،
حيث يقتحم عليك ويسرق دجاجك ... وقد كتبت إلى أيوب بن شرحبيل،
آمره أن يبني لك الحائط حتى يحصنه مما تخافين إن شاء الله.
يقول راوي القصة: فلمـا جاء الكتاب إلى أيوب بن
شرحبيل ركب بنفسه حتى أتى الجيزة
وظل يسأل عن فرتونة حتى وجدها، فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلى لها حائطها
لنتأمل الآن ما الذي تمنحه لنا الحكاية على قصرها من دروس نفيسة,
لا تخفى على كل ذي لب...أول تلك الدروس نستقيها مباشرة من معلم الحكاية الأول
الخليفة عمر بن عبد العزيزليعلمنا فيه أن إحقاق الحق وإعادة ميزان
العدل إلى نصابه الصحيح تطلب خطوتين لإتمامه ...
أما الأولى فإلى المقصرين ذوي العلاقة والشأن بشكل
مباشر بصفتهم الشخصية
والوظيفية لإصلاح ما وقع من ظلم أو تقصير ضمن حدود مسؤولياتهم.
وأما الخطوة الثانية وهي الأهم فلصاحبة الشكوى
لتطمئن نفسها
بوصول رسالتها وسماع تظلمها.
الدرس الثاني سنأخذه من والي مصر.. في تلقفه أمر الخليفة بحس إنساني
راق وتحمله المسؤولية بشكل مباشر, وهو الذي كان بمقدوره أن ينتقي خيارات أخرى
أيسر له لكنه آثر إلا أن يتجشم عناء السفر, ويخوض وعثاءه بنفسه إلى الجيزة ويضنيه
البحث حتى تسنى له أخيرا أن يجد العجوز ويتولى أمر بناء حائطها بشكل فوري ومباشر..
أما بطلة الحكاية.. فرتونة فستعطينا بنفسها درسا رائعا في الثقة واليقين والصبر..
لنأخذ عنها اطمئنانها العالي إلى حاكم إذا طلبته وجدته قريبا منها رغم ما بينهما
من تباعد في الديار..
ولنسأل.. من أين لعجوز مسكينة مثلها كل ذلك اليقين المطلق الذي جعلها تعول على عدل
بعيد
سيقطع لها المسافات ويذلل لها الصعاب من أجل أن يعيد لها حقا سلب منها ويهبها حياة
آمنة تليق بها؟
كأنها عرفت مسبقا أن في ذلك استحقاقا لها لا منة فيه عليها لأحد... نحن لا نعرف كم
من الوقت
والجهد تطلب اكتمال بناء جدارها المهدم من جديد منذ أن أرسلت كتابها حتى أمنت
تماما على دجاجها
المسروق من اللصوص، فالروايات لا تذكر لنا ذلك..لكن انظروا باحترام إلى تلك الثقة
العالية
التي تشربت كيان تلك العجوز إلى الحد الذي جعلها تجزم رغم طول الزمن وبعد المسافات
باسترجاع حقها الضائع دون حاجة إلى تزلف منها أو تذلل حتى إلى الخليفة ذاته الذي
أرسلت إليه بكتابها تستصرخه لنجدتها.. لكن كيف لها ألا تثق بعدل حاكم كان يأمر
بنثر القمح
على رؤوس الجبال لكي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين؟ كيف لها ألا تأمل خيرا من
حاكم
حصن أسوار دولته المترامية الأطراف بالعدل وحده..فرتعت الذئاب مع الشياه في مرعى
واحد..
فلمـا أكل ذئب إحدى الشياه عرفت الرعية حينها أن حاكمهم هذا قد مات من فوره!.
فانظر إلى هذا الإمام
العادل الذي اجتهد في مدة ولايته مع قصرها حتى رد المظالم،
وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان ينادي في كل يوم:
أين الغارمون؟ أين الراغبون في الزواج؟ أين
اليتامى؟ أين المساكين؟
حتى أغني كلا من هؤلاء، ولذلك قال عنه الإمام أحمد بن حنبل:
" إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز,
ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيرا إن شاء الله ".
حكاية فرتونة هذه على بساطة أحداثها أرخت لعصر
ذهبي كان حافلا بقصص
عدل حقيقي تواتر نقلها في كتب التاريخ والسير رغم أنه عصر لم يحجز له على
صفحات الزمن أكثر من سنتين وخمسة أشهر وبضعة أيام أحصته لنا أصابع التاريخ يوما
يوما..
ثم إنها أرخت كذلك لحاكم كان العدل شغله الشاغل إذ شكل له هاجس تحد منذ أول لحظة
باغتته الخلافة فيها.. وظل ذلك الهاجس يؤرقه ويأكل منه حتى تاريخ وفاته رضي الله
عنه.
والآن دعونا نتساءل: كم
من فرتونة...
سوداء كانت أم بيضاء بح صوتها وهي تستنجد من دون أن يسمعها أحد؟
كم من فرتونة تشكو اليوم لصوصا يتسورون جدارها
ويسرقون منها كل شيء ولا من مجيب؟.
لترجع شعوبنا اليوم إلى حكامها لتسألهم ذلك, بل
لتسألهم قبلها:
من منكم سمع أصلا بحكاية فرتونة السوداء هذه؟.
فليقولوا لهم: أيها الحكام في بلادكم تهدمت
جدرنا من جديد, وماتت الطيور
جوعا بموت من كان ينثر القمح لها على رؤوس الجبال,
وأكلت الذئاب شياهنا منذ زمن بعيد!..فإذا لم
تأبهوا لكل ذلك فلأي شيء ستأبهون؟
قولوا لهم: إذن لمن ستبعث فرتونة بكتابها اليوم مستصرخة؟
إننا لنعجب كل العجب كيف ينام هؤلاء..! وكيف
يشعرون بالراحه..
أليس لهم ضمـائر أو قلوب..؟!
هل يجد الواحد منهم مشقة أوتعبا إذا راجع نفسه
قبل أن يخلد للنوم يتذكر أفعاله وأعماله,
ويشفق على حاله وهو مسؤول عن نفسه ..
وعمـا اقترفت أو اكتسبت يداه!
إننا نشفق والله على كل
من قلد منصبا قياديا؛لأنه سيسأل يوم القيامة,
سيسأل عن كل شيء حتى عن خلجات نفسه وأفكاره.