شرح حديث التعوذ بعد التشهد
الأخير
الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله
السحيم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ
:
كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو :
( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ , وَمن عَذَابِ النَّارِ
, وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ , وَمِنْ
فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ )
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ :
( إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ
بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ , يَقُولُ :
اللَّهُمَّ إنِّي
أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ
)
ثم
ذَكّر نحوه .
أهمية هذه الأربع
والاستعاذة منها :
عذاب القبر ، وعذاب النار ، وفتنة المحيا ، وفتنة
الممات ، وفتنة الْمَسِيحِ
الدَّجَّالِ . إثبات عذاب القبر ، وقد أنكره بعض
المعتزلة من نحا نحوهم
وسار بِسيرهم ، وعذاب القبر حق
.
قال ابن دقيق العيد :
فِي
الْحَدِيثِ إثْبَاتُ عَذَابِ الْقَبْرِ . وَهُوَ مُتَكَرِّرٌ
مُسْتَفِيضٌ فِي الرِّوَايَاتِ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ . وَالإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ . وقد تقدّم
التفصيل في هذه المسألة في شرح حديث ابن عباس رضي
الله عنهما ،
وهو الحديث الثامن عشر .
إثبات
فتنة المسيح الدجال ، وأنه أعظم فتنة ما بين خلق آدم إلى قيام
الساعة ، لِما أعطاه الله ومكّنه مما فيه فتنة .وقد
أنكره قوم ، وتأوّله
آخرون ! فقد تأوّل بعض المعاصرين أن المقصود به :
الحضارة الغربية ،
أو
اعوجاج الضمير اليهودي ! وهذا تأويل مرفوض ، إذ
كيف يُتصوّر أن
يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم من المسيح الدجال ،
ويأمر أصحابه
بالاستعاذة منه ، ويُخبر بمكانه ، وبما معه ، وجهة
خُروجه ، وأنه يَخرج
من جهة المشرق ، وأنه يَتبعه سبعون ألف من يهود
أصبهان ، كما
في
صحيح مسلم ، وأصبهان اليوم في إيران !ثم يُتأوّل بعد
ذلك
هذا
التأويل الفاسد ؟!
وقد أخبر تميم الداري النبي صلى الله عليه وسلم بما
رأى من الدجّال ،
فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم ، وذَكَر عليه
الصلاة والسلام أنه
وافق الذي حدّثهم عن الدجال ، والحديث بِطوله في صحيح
مسلم .
معنى فتنة
المحيا :
قال ابن دقيق العيد : مَا يَتَعَرَّضُ لَهُ
الإِنْسَانُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ ، مِنْ الافْتِتَانِ
بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالاتِ ،
وَأَشَدُّهَا وَأَعْظَمُهَا - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى
:
أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ
.
معنى فتنة الممات
:
قال ابن دقيق العيد : يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا
الْفِتْنَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ . أُضِيفَتْ
إلَى الْمَوْتِ لِقُرْبِهَا مِنْهُ . اهـ . وفُسِّرتْ فتنة الممات
بأنها فتنة القبر .
وكان ابن أبي مليكة يقول : اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع
على أعقابنا ،
أو
نفتن عن ديننا . رواه البخاري ومسلم .
وكان سلف هذه الأمة يخافون على أنفسهم من فتنة
المحيا
ومن
فتنة الممات
قال صالح بن أحمد بن حنبل : لما حضرت أبي الوفاة
فجلست عنده
والخرقة بيدي أشدّ بها لحيته . قال : فجعل يغرق ثم
يفيق ويفتح عينيه
ويقول بيده هكذا : لا بعد . لا بعد . لا بعد . ففعل
هذا مرة وثانية ، فلما كان
في
الثالثة قلت له : يا أبتِ إيش هذا الذي لهجت به في هذا الوقت ؟
فقال
: يا بني أما تدري ؟ قلت : لا . فقال : إبليس لعنه
الله قائم بحذائي
عاضّ على أنامله يقول : يا أحمد فتني ! فأقول : لا ،
حتى أموت .
وقال عطاء بن يسار : تبدّى إبليس لرجل عند الموت فقال
: نجوت !
فقال :
ما نجوت ، وما أمنتك بعد .
ففتنة المحيا هي ما يكون في الحياة من الردّة –
عياذاً بالله – أو ما يكون
من الضلال بعد الهدى ، والمعصية بعد الطاعة .وفتنة
الممات شاملة لفتنة
الاحتضار ، وحضور الشيطان عند الميت ، ولفتنة القبر
وسؤاله .
استعاذة النبي صلى الله
عليه وسلم مع عصمته منها :
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : ودعاء النبي صلى
الله عليه وسلم
واستعاذته من هذه الأمور التي قد عُوفي منها وعُصم
إنما فعله ليلتزم
خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه ، ولتقتدي به
أمته ، وليبين لهم
صفة الدعاء والمهم منه . ذَكَرَه النووي
.
وكذا قال الحافظ العراقي في طرح التثريب
:
اسْتِعَاذَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ مَعَ أَنَّهُ مُعَاذٌ مِنْهَا
قَطْعًا
فَائِدَتُهُ إظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالاسْتِكَانَةِ
وَالْعُبُودِيَّةِ وَالافْتِقَارِ ، وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ
غَيْرُهُ
فِي ذَلِكَ ، وَيُشَرِّعَ لأُمَّتِهِ . اهـ .
حُكم الاستعاذة
من هذه الأربع في الصلاة :
قال الإمام النووي : قوله : إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يُعلّمهم
هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن ، وأن طاوساً
رحمه الله تعالى
أمر ابنه حين لم يَدْعُ بهذا الدعاء فيها بإعادة
الصلاة ؛ هذا كله يدل على
تأكيد هذا الدعاء والتعوذ والحثّ الشديد عليه ، وظاهر
كلام طاوس رحمه
الله تعالى أنه حَمَل الأمر به على الوجوب ، فأوجب
إعادة الصلاة لفواته ،
وجمهور العلماء على أنه مستحب ليس بواجب ، ولعل
طاوساً أراد تأديب
ابنه وتأكيد هذا الدعاء عنده لا أنه يعتقد وجوبه ،
والله أعلم .