الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وبعد :
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
:
( إلا وإن في الجسد مضغة , إذا صلحت صلح الجسد كله
،
وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب
)
[ رواه البخاري ومسلم ]
وإذا كان ربنا تبارك وتعالى قد علق نجاة العبد يوم
القيامة على سلامة القلب
كما قال :
{ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88}
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
}
[ الشعراء : 88 – 89 ]
فحري بالعبد أن يجتنب كل ما من شأنه أن يفسد عليه
قلبه ،
ولهذا ننقل لكم من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله
تعالى ما يبين أعظم
وأهم أسباب فساد القلب : قال الإمام ابن القيم رحمه
الله تعالى :
وأما مفسدات القلب الخمسة فهي التي أشار إليها من
كثرة الخلطة ،
والتمني ، والتعلق بغير الله ، والشبع ، والمنام
.
فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب
:
المفسد الأول : كثرة المخالطة : فأما ما تؤثره كثرة
الخلطة :
فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود
،
ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما ، وضعفا
،
وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء ، وإضاعة
مصالحه ،
والاشتغال عنها بهم وبأمورهم ، وتقسم فكره في أودية
مطالبهم وإراداتهم .
فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة ؟
هذا ، وكم جلبت خلطة الناس من نقمة، ودفعت من نعمة،
وأنزلت من محنة ،
وعطلت من منحة ، وأحلت من رزية ، وأوقعت في بلية
.
وهل آفة الناس إلا الناس ؟
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا
،
وقضاء وطر بعضهم من بعض ، تنقلب إذا حقت الحقائق
عداوة ،
ويعض المخلط عليها يديه ندما
،
كما قال تعالى :
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً
{27}
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً
خَلِيلاً {28}لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ
جَاءنِي }
[ الفرقان : 27 – 29 ]
وقال تعالى :
{ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }
[ الزخرف : 67 ]
وقال خليله إبراهيم لقومه :
{إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً
مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم
بَعْضاً
وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ
}
[ العنكبوت : 25 ]
وهذا شأن كل مشتركين في
غرض
يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله ، فإذا انقطع
ذلك الغرض ،
أعقب ندامة وحزناً وألماً وانقلبت تلك المودة بغضاً
ولعنة ،
وذماً من بعضهم لبعض .
والضابط النافع في أمر الخلطة
:
أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة ، والأعياد
والحج ،
وتعلم العلم ، والجهاد ، والنصيحة ، ويعتزلهم في الشر
وفضول المباحات .
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر، ولم يمكنه
اعتزالهم :
فالحذر الحذر أن يوافقهم ، وليصبر على أذاهم
،
فإنهم لابد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر
.
ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له ، وتعظيم وثناء عليه منهم
، ومن المؤمنين ،
ومن رب العالمين ، وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ،
ومقت ، وذم منهم ،
ومن المؤمنين ، ومن رب العالمين . فالصبر على أذاهم
خير وأحسن عاقبة ،
وأحمد مآلا . وان دعت الحاجة إلى خلطتهم في
فضول المباحات ،
فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه
.
المفسد الثاني من مفسدات القلب: ركوبه بحر
التمني:
وهو بحر لا ساحل له . وهو البحر الذي يركبه مفاليس
العالم ،
كما قيل : إن المنى رأس أموال المفاليس .
فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة ، والخيالات الباطلة
،
تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة
،
وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية
،
ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية
،
بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية .
وكل بحسب حاله : من متمن للقدرة والسلطان ،
وللضرب في الأرض والتطواف في البلدان ، أو للأموال
والأثمان ،
أو للنسوان والمردان ،
فيمثل المتمني صورة مطلوبة في نفسه وقد فاز بوصولها
والتذ بالظفر بها ،
فبينا هو على هذا الحال ، إذ استيقظ فإذا يده والحصير
!! .
وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان
،
والعمل الذي يقربه إلى الله، ويدنيه من جواره
.
فأماني هذا إيمان ونور وحكمة، وأماني أولئك خداع
وغرور .
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم متمني الخير ،
وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله
.
المفسد الثالث من مفسدات القلب : التعلق بغير الله
تبارك وتعالى :
وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق ، فليس عليه أضر من
ذلك ،
ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه
،
فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به .
وخذله من جهة ما تعلق به،
وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره ،
والتفاته إلى سواه .
فلا على نصيبه من الله حصل ، ولا إلى ما أمَّله ممن
تعلق به وصل .
قال الله تعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً
لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً {81}
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدّاً }
[ مريم : 81 – 82 ]
وقال تعالى :
{ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً
لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ
مُّحْضَرُونَ }
[ يس : 74 – 75 ]
فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله
.
فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل
له ممن تعلق به،
وهو معرض للزوال والفوات . ومثل المتعلق بغير الله :
كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت ، أوهن
البيوت.
وبالجملة : فأساس الشرك وقاعدته التي بني عليها : التعلق بغير
الله .
ولصاحبه الذم والخذلان ،
كما قال تعالى :
{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ
فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً }
[ الإسراء : 22 ]
مذموما لا حامد لك ، مخذولا لا ناصر لك
.
إذ قد يكون بعض الناس مقهوراً محموداً كالذي قهر
بباطل ،
وقد يكون مذموماً منصوراً كالذي قهر وتسلط بباطل
،
وقد يكون محموداً منصوراً كالذي تمكن وملك بحق
.
والمشرك المتعلق بغير الله قسمه أردأ الأقسام الأربعة
،
لا محمود ولا منصور .
المفسد الرابع من مفسدات القلب : الطعام
:
والمفسد له من ذلك نوعان : أحدهما : ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات
.
وهي نوعان : محرمات لحق الله
:
كالميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وذي الناب من السباع
والمخلب من الطير .
ومحرمات لحق العباد : كالمسروق والمغصوب والمنهوب
،
وما أخذ بغير رضا صاحبه ، إما قهرا وإما حياء وتذمما
.
والثاني : ما يفسده بقدره وتعدي حده ، كالإسراف في الحلال
،
والشبع المفرط ، فإنه يثقله عن الطاعات
،
ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها
،
فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها ،
والتأذي بثقلها ،
وقوى عليه مواد الشهوة ، وطرق مجاري الشيطان ووسعها
،
فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم . فالصوم يضيق مجاريه
ويسد طرقه ،
والشبع يطرقها ويوسعها .
ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر
كثيرا.
وفي الحديث المشهور:
( ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم
لقيمات يقمن صلبه .
فإن كان لابد فاعلا فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث
لنفسه )
[ رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه الألباني
]
المفسد الخامس : كثرة النوم :
فإنه يميت القلب، ويثقل البدن ، ويضيع الوقت ، ويورث
كثرة الغفلة والكسل
ومنه المكروه جدا ، ومنه الضار غير النافع للبدن
.
وأنفع النوم : ما كان عند شدة الحاجة إليه
.
ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخرة ، ونوم وسط النهار
أنفع من طرفيه .
وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه ، وكثر ضرره ،
ولاسيما نوم العصر .
والنوم أول النهار إلا لسهران .
ومن المكروه عندهم : النوم بين صلاة الصبح وطلوع
الشمس ؟
فإنه وقت غنيمة ، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية
عظيمة
حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن
السير
ذلك الوقت حتى تطلع الشمس ، فإنه أول النهار ومفتاحه
،
ووقت نزول الأرزاق ، وحصول القسم ، وحلول البركة
.
ومنه ينشأ النهار ، وينسحب حكم جميعه علي حكم تلك
الحصة .
فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر .
بالجملة فأعدل النوم وأنفعه : نوم نصف الليل الأول ، وسدسه الأخير
،
وهو مقدار ثماني ساعات . وهذا أعدل النوم عند الأطباء
،
وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة
انحرافا بحسبه .
ومن النوم الذي لا ينفع أيضا : النوم أول الليل ،
عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهه . فهو مكروه شرعا وطبعا .
نسأل الله تعالى
أن يصلح قلوبنا وأن يجنبنا أسباب الردى ، وصلى الله
وسلم
وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين ،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين