التفكر من أعظم
العبادات؛
كما قال عمر بن عبد
العزيز: "التفكر في نعم الله عز وجل
من
أعظم العبادة".
قال
الحسن:
"تفكر
ساعة خير من قيام ليلة".
وذلك
أن التفكر طريق الاعتبار، وقد امتدح الله
المعتبرين
فقال بعد أن ذكر نهاية
قوم لوط:
{
فَجَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ.
إن
في ذلك لآيات للمتوسمين }
(الحجر:74،
75 )
..
والمتوسمون: هم المعتبرون الذين يأخذون العبرة وينتفعون
بها.
فما هي العبرة؟ وما
أنواعها؟ وما هو موقف المؤمن منها؟
العبرة
لغة: الدرس والعظة
واصطلاحا:
أحداث ووقائع تجري بأمر الله، وهي شاهد على صدق سنن
الله
التي بنى عليها الكون وسيره بها. وهي من أعظم مقاصد قصص
القرآن
الكريم:
{ وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
ۚ
وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ
الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }
[هود:120].
وينبغي
أن تعلم أنه لا ينتفع بالعبرة إلا العقلاء: أصحاب النظر الكريم،
والرأي
السديد، والعقل الرشيد. من كان له قلب أو ألقى السمع وهو
شهيد،
ومن كان في قلبه خشية من العزيز الحميد
{
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ }
[النازعات:26]،
{ لَقَدْ كَانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ }
[يوسف:111]،
{
فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الْأَبْصَار ِ }
[الحشر:2].
صنفان من الناس لا
ينتفعون بالعبرة أبدًا:
المتكبرون
والمعطلون.
فالمتكبر:
يرى
الكل حقيرًا إذا قاسه بنفسه، فهو أعلى من أن يعتبر بحدث أو يهزه
موقف.
وهؤلاء محرومون من الفهم، مصروفون عن الحق مخذولون
عن
التوفيق:
{
سَأَصْرِفُ عَنْ
آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ
آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الرُّشْدِ
لَا يَتَّخِذُوهُ
سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
}
[الأعراف:146].
ثم
المعطلون لأسماعهم وأبصارهم وعقولهم، فهم كالحيوان لا يعتبر
بالحدث
الذي يجري أمامه؛ يرى الخطر بعينه والناس هلكى ثم يعود بعد
ذلك
فيفعل الفعل نفسه. وهؤلاء هم المرشحون لنار جهنم
{
وَلَقَدْ
ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ
لَهُمْ
قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا
يُبْصِرُونَ بِهَا
وَلَهُمْ
آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ ۚ
أُولَٰئِكَ
هُمُ الْغَافِلُونَ }
[الأعراف:179].
أنواع
العبرة:
أولها:
العبرة في بيان قدرة الحق سبحانه
وأعظم
ما يكون ذلك بالنظر في مصنوعات الله والتفكر في مخلوقاته؛
فالصنعة
تدل على الصانع، ودقة الخلق تدل على عظمة الخالق، ورب
العزة
سبحانه يدعونا لنتأمل في خلقنا، وفي خلق السموات والأرض،
وخلق
النبات، والبحار، والحيوان. قال تعالى:
{
وَفِي أَنفُسِكُمْ
ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }
[الذاريات:21]،
{
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لَآيَاتٍ
لِّأُولِي الْأَلْبَابِ }
[آل
عمران:190]،
{
انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ
}
[الأنعام:99]،
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ
مِن
بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا
لِّلشَّارِبِينَ }
[النحل:66].
يقول
بعض العلماء:
"إن
الغذاء إذا طبخ في المعدة انصرف كل شيء إلى سبيله، فينصرف
الدم
إلى العروق واللبن إلى الضرع، والبول إلى المثانة، والروث إلى
الأمعاء
ثم المخرج، فلا يمتزج شيء منها بغيره، بل ولا يأخذ واحد منها
من
الآخر رائحة أو تشوبه منه شائبة؛ فتبارك الله أحسن
الخالقين".
ثانيًا:
الاعتبار بهلاك الظلمة والطغاة
اعلم
أن للكرسي شهوة هي أشد من شهوة المال والنساء والولد، والحاكم
إن
لم يكن عنده من الدين ما يحفظ له توازنه وعقله أصيب بجنون العظمة
حتى
يرى نفسه فوق مستوى البشر، فربما قال "أنا ربكم
الأعلى"
كما قال فرعون، أو كما
قال النمرود "أنا أحيي وأميت".
أو
يظن أن عقله يتسع لأن يشرع للبشرية منهجا أحسن من منهج الله أو
يساويه
أو يدانيه، أو يستورد لهم من قوانين الخلق ما يظنه فوق شريعة
الرب،
وهذا أعظم الظلم وأبينه كما قال عز وجل:
{
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ
قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ
وَلَمْ
يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ }
[الأنعام:93].
فتأمل
في عاقبتهم واعتبر: أما فرعون فأغرقه الله في اليم
{
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ
مُلِيمٌ }
[الذاريات:40]،
وجعل
من جثته وجيفته آية وعظة وعبرة لكل الطغاة بعده
{
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً }
[يونس:92].
فما أعظمها من عبرة ولكن
أين من يعتبر؟
{
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
}
[يونس:92].
وأما
النمرود فكما يقول ابن كثير: سلط الله عليه بعوضة دخلت في أنفه
وصعدت
إلى دماغه؛ فكان لا يستريح حتى يضرب رأسه في
الحيطان
أو يضربه خدمه ومن حوله
بالنعال.
وكم
من طاغية أحاط نفسه بمن يظن أنهم يحمونه، وسور على نفسه
بألف
سور لتحفظه من أهل الأرض،
{ فَأَتَى اللَّهُ
بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ
مِنْ فَوْقِهِمْ
وَأَتَاهُمُ
الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
}
[النحل:26].
ثالثًا:
الاعتبار بزوال الأمم
فمن
سنن الله في كونه أن أحوال الناس معلقة بإيمانهم فإذا غيروا غير
الله
عليهم؛ فإن هم آمنوا بالله أنزل لهم المطر، وأنبت لهم الزرع،
وأحفل
لهم
الضرع، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، فإذا غيروا وعصوا
وظلموا
وكفروا نعمته؛ أهلكهم بذنوبهم وظلمهم.. فأمسك عنهم القطر،
وأبدلهم
بعد الأمن خوفا، وبدل الرزق جوعا، وبدل النعمة نقمة
{
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً
مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا
رَغَدًا
مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
بِمَا كَانُوا
يَصْنَعُونَ }
[النحل:112].
رابعًا:
العبرة بمن استطال على الناس بجاهه
وماله:
بعض
الذين فاجأتهم النعمة نظروا إلى البشر نظرة ازدراء واحتقار،
وظنوا
أنهم فوق بقية الناس اعتزازا بأموالهم أو بجنسياتهم أو قومياتهم
أو
إقليمياتهم.. وهؤلاء ضرب الله لهم مثلا بقارون فنسب النعمة لنفسه
ولم
ينسبها لرب العزة سبحانه. فكيف كانت العاقبة؟
{
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ
فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ
مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ
}
[القصص:81].
خامسًا:
العبرة بعاقبة أكل الحرام:
فأكل
الحرام مفسدة، وهو مهلكة في الآخرة فكل جسم نبت من سحت
فالنار
أولى به، وقل أن يدخل الحرام على الحلال إلا ويفسده
ويمحقه.
ذكروا
أن إخوة كانت لهم بقرة يخلطون لبنها بالماء ويبيعونه للناس،
واستمروا
على هذا الحال زمنا، ثم أرسل الله سيلا فحمل البقرة فغرقت
فماتت،
فقال لهم العقلاء: ما بعتموه للناس أقساطًا جمعه الله لكم
فأغرق
لكم به البقرة.
الدافع
إلى الحرام ربما يكون البحث عن تأمين المستقبل للأبناء ليوفر لهم
الأب
المستقبل المشرق المضيء، ورب العزة سبحانه يخبرنا أن خير
ضمانة
لحفظ الأبناء أنما هي التقوى.. من خاف على عقبه وعقب عقبه
فليتق
الله
{
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
ضِعَافًا
خَافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
}
[النساء:9].
سادسًا:
ومن العبرة أن العاقبة لمن اتقى وصبر
فهذا
يوسف عليه السلام حسده أخوته وهموا بقتله
{
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ
أَبِيكُمْ }
[يوسف:9]،
ويرمونه
في الجب، وتمضي الأيام ويمكن الله له في الأرض، بل ويأتيه
أخوته
أذلة صاغرين،
{ قَالُوا أَإِنَّكَ
لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي
ۖ
قَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ
فَإِنَّ
اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }
[يوسف:90].
موقف المؤمن من
العبرة.
أما
موقف المؤمن من هذه الآيات والشواهد
والعبر:
أولًا:
أن يعلم أن المتصرف الحقيقي في الكون هو
الله:
يظهر
هذا من قصة موسى وفرعون ففيها تحد للفلسفة العقلية فتأمل
معي:
لقد أُعلِم فرعون أن هلاكه سيكون على يد مولود من بني إسرائيل،
فأمر
بأن يقتل كل مولود ذكر، فشاء الله أن يولد وأراد فرعون ألا
يولد..
فولد.
وأراد الله أن يعيش وأراد فرعون ألا يعيش. فكان ما أراد الله بل
ويعيش
في بيت فرعون وكنفه ويربيه بيده. ثم خرج موسى طريدا شريدا
فآواه
الله وأمنه وزوجه، وعاد إلى فرعون نبيا داعيا وهو مطلوب الدم
يدخل
على أعظم ملوك الأرض ويخرج بعد ذلك
منتصرا.
خرج
مع قومه بني إسرائيل حتى بلغو البحر وأدركه فرعون
وجنوده،
كل قوانين الأرض تحكم
أنه هالك لا محالة، وخار قومه وتيقنوا الهلكة
وقالوا:
{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ
. قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }
الشعراء:61،62]
فكانت النجاة لموسى ومن
معه، وكانت الهلكة لفرعون ومن معه.
إن في ذلك لآيات لأولي
النهى.
ثانيًا:
أن تزن الأمور بحقائقها لا بمجرد
ظواهرها:
المسلمون
في حنين كانوا كثرة وقالوا: "لن نهزم اليوم من قلة"؛ فهُزموا
في
البداية. وفي بدر كانوا قلة ونصرهم الله وهم
أذلة!!
فليست
الأمور توزن بالقلة والكثرة الظاهرة، بل قلة معها الله منصورة لا
محالة،
وكثرة معها الشيطان مقهورة لا محالة
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }
[الطلاق:3]،
{ كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ }
[البقرة:249].
أخيرًا: لا تحزن لفرحة
ظالم أو لغلبة باطل:
لأنها
فرحة زائلة وغلبة مؤقتة؛ فإذا كان للباطل جولة فإن للحق جولات،
ودولة
الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، والحق أبلج والباطل
لجلج..
وقد ذيل الله كثيرا من الآيات بقوله عن
الكفار:
{ حَبِطَتْ
أَعْمَالُهُمْ }.
وأصل
الحبط والحبوط: أن تأكل الدابة شيئا فتنتفخ وربما تموت، فيظن
من
رآها من قصار النظر أن انتفاخها دليل عافيتها وقوتها، ولكنها في
الحقيقة
تحمل سبب هلاكها في نفسها، وكذلك الباطل يظن من رأى غلبته
أنه
باق لا يزول، وربما ظن البعض أن الواقع لا يتغير وأن الغلبة
لأعداء
الله،
ولكن يأبى الله إلا أن ينصر دينه وأهله وحزبه
{
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا
هُوَ زَاهِقٌ }
[الأنبياء:18].
اللهم
إنا نسألك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين، وأن تعلي كلمة الحق