ورد إهلاكَ المرء نفسَهُ بنفسِهِ صريحًا في القرآن الكريم في موطنين اثنين
أولهما: في سياق الحديث عمن يبتعدون عن الحق بكل صوره، ويُبعدون غيرهم عن اتباعه؛ قال الله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 26]. فهؤلاء لا يقع غِبُّ فعلهم القبيح إلا على أنفسهم هلاكًا وضياعًا؛ ولذا ورد في صيغة الحصر والقصر: ﴿ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾، فالهالك الوحيد بفعلهم هم أنفسهم، لا أحد سواهم، وهذا من بلاغة القرآن الكريم.
ومع أن النهيَ عن الحق لون دعوة للغير ليتبعَهم في باطلهم، لكنه قصر وحصر عاقبةَ فعلِهم عليهم؛ لأن المدعوَّ للباطل له أن يرفض الدعوة فينجو، وقد يجيبها فيهلِك، فكان هلاكه عند الإجابة لداعي الباطل مرجعه لاستجابته هو وفعله، لا إلى دعوة داعي الضلال؛ لذا حصر هلاك النائي عن الحق والناهي عنه على نفسه لا غير، وإن هلك معه غيره، فبفعله هو لا بفعل الأول، فهو معنًى دقيقٌ، فتأمله.
ثانيهما: في إطار حلف المنافقين بالله كذبًا وزورًا في اعتذارهم للقعود تخلُّفًا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي توصيف المشهد قال الله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42].
ومعلومٌ أن التخلف عن الجهاد سببه الحرص على الحياة فعُوقبوا بنقيض هدفهم، ولم يجعل القرآن هلاكهم قاصرًا عليهم كما في الموطن الأول، فلم يأتِ بصيغة الحصر والقصر، وإنما جاء السياق بدون ذلك: ﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾؛ لأن القعود عن الجهاد والتخلف عن النصرة لونُ خِذلان للغير ممن اعتمد عليهم؛ لذا جاء بأسلوب يعمُّ فيه الهلاك غيرهم معهم، وذلك لاعتماده عليهم في النصرة، فيَهلكون ويُهلكون، ثم يُبعثون جميعًا على نياتهم.