الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي
السؤال
♦ الملخص:
شابٌّ يعمل في شركةٍ ومعه زميلةٌ له مُتبَرِّجة، أُعجِبَ بها، ويُريد
أن يُرسِلَ لها رسالةً يَحثُّها على الحجاب، ويريد النصيحة.
♦ التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شابٌّ في الثلاثينيات مِن عمري، أعمل بشركةٍ ومعي زميلةٌ تعمل معي،
ليس بيني وبينها أية علاقة؛ فأنا محافظٌ وتربَّيتُ على ذلك، وهي غيرُ
ملتزمة بالحجاب أو الزِّيِّ الشرعيِّ؛ لكنها تُصلِّي!
أُعجِبْتُ بها، وأحسستُ ميلَها لي وإعجابها بي؛ لكوني مُجِدًّا في عملي،
وملتزمًا في مكان عملي، وطيِّبًا في علاقتي مع بقية الزملاء والزميلات.
أحاول كثيرًا أن أَغُضَّ بصري عنها، لكني متعلِّق بها!
فكرتُ في إرسال خطابٍ إليها يحثُّها على الالتزام ولبس الحجاب
بأسلوبٍ رقيقٍ، فيه كثيرٌ مِن الترغيب، لكن لا أعرف كيف أكتب؟
وماذا أكتب عسى الله أن يهديها؟
أرشدوني ماذا أفعل بارك الله فيكم؟
الجواب
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:
فجزاك الله خيرًا - أيها الأخ الكريم - على تَمسُّكك بأوامر ديننا الحنيف،
وأُحيِّيك - بارك الله فيك - على صِدْقك مع نفسك، وأسأل الله أن يُعينك
على العمل بموجب هذا الصِّدْق.
لا يخفى عليك - سلَّمك الله - كلامُ أهل العلم قديمًا وحديثًا عن حُرمة
الاختلاط وأضراره على الفرد والمجتمَع، وأنَّ الواجبَ على كلِّ مَن
نصَح نفسه الابتعادُ عن تلك الأماكن؛ لِمَا يَتَرَتَّب عليها مِن أضرارٍ؛
أقلُّها السَّهْمُ الذي أصابَك تُجاه تلك الفتاة، وحتى إن لم تعملْ بموجِب هذا المَيْلِ
والإعجاب - وهذا بلا شك أحسنُ أحوالك - فلن يَتَوَقَّف التفكير،
ولن تَنحسِمَ مادةُ الهوى، أسأل الله أنْ يَعْصِمَك مِن المزيد، ولكن هذا
بمفرده تأخُّر في السير إلى الله؛ كما قال الإمام ابن القيِّم في كتابه
الفوائد (ص: 193):
فالعبدُ لا يزال في تقدُّم أو تأخُّر، ولا وقوفَ في الطريق البتَّةَ ،
وقال في مدارج السالكين (1/ 278):
والقصدُ: أنَّ إضاعةَ الوقت الصحيح يدعو إلى درك النَّقيصة؛
إذْ صاحبُ حِفظِه مُتَرَقٍّ على درجات الكمال، فإذا أضاعَهُ لم يقفْ مَوضِعَه، بل يَنْزِل
إلى درجاتٍ مِن النقص، فإنْ لم يكنْ في تقدُّم فهو متأخِّرٌ ولا بدَّ، فالعبدُ
سائرٌ لا واقفٌ، فإمَّا إلى فوق وإما إلى أسفل، إمَّا إلى أمام وإما إلى وراء،
وليس في الطبيعةِ ولا في الشريعةِ وُقوفٌ البتة، ما هو إلا مراحلُ تُطوى
أسرعَ طيٍّ إلى الجنة أو النار، فمُسِرعٌ ومُبطئ، ومُتقدِّم ومُتأخِّر،
وليس في الطريق واقفٌ البتَّةَ، وإنما يَتَخَالَفون في جهة المسير،
وفي السرعة والبُطء؛
{ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }
[المدثر: 35 - 37]
، ولم يَذْكُرْ واقفًا؛ إذ لا مَنْزِلَ بين الجنة والنار، ولا طريقَ لسالكٍ إلى
غير الدارين البتة، فمَن لَم يَتَقَدَّمْ إلى هذه بالأعمال الصالحة، فهو متأخِّر
ٌ إلى تلك بالأعمال السيئة . اهـ.
الأخ الكريم، ما ذكرتَه مِن الميل الطبيعي تُجاه تلك الفتاة أمرٌ مزعجٌ
لا تَستَهِنْ به، وكنْ حَذِرًا؛ لأنَّ النفس - كما أشرنا - لا تَقْنَعُ إلا بالمزيد،
ولا تكفُّ عن السَّيْر والأمانيِّ، والهوى رأسُ الشرِّ، ومِن دلالة ذلك
انشغالك بمُتابعَتِها لك، ولا أجد ما أُحذِّرك به أفضل مما كتبه مَن
لا نظير له في تطبيب القلوب ومُداواة آفاتها في كتابه:
الداء والدواء (ص: 152- 153): ... ولَمَّا كان مبدأُ ذلك مِن قِبَل
البَصَر، جُعِل الأمرُ بِغَضِّه مُقدَّمًا على حِفْظ الفَرْج، فإنَّ الحوادثَ مَبْدَؤُها
مِن البصر، كما أنَّ معظم النار مِن مُستَصْغَر الشرَر، فتكون نظرةٌ،
ثم تكون خَطْرةٌ، ثم خطوةٌ، ثم خطيئةٌ.
ولهذا قيل: مَن حَفِظَ هذه الأربعةَ أحْرَزَ دينَه: اللحظات، والخطَرات،
واللفظات، والخُطوات، فينبغي للعبد أن يكونَ بوَّابَ نفسه على هذه
الأبواب الأربعة، ويُلازم الرِّباطَ على ثُغورِها، فمنها يَدْخُل عليه العدوُّ،
فيَجُوسُ خلال الديار، ويُتَبِّر ما علا تَتْبِيرًا...، والنظرُ أصلُ عامَّة
الحوادث التي تُصيب الإنسان، فالنظرةُ تُولِّد خَطْرةً، ثم تُولِّد الخَطْرةُ فكرةً،
ثم تُولِّد الفكرةُ شهوةً، ثم تُولِّد الشهوةُ إرادةً، ثم تَقْوَى فتَصير
عزيمةً جازمةً، فيقع الفعلُ ولا بد ما لم يَمْنَعْ منه مانعٌ، وفي هذا قيل: الصبرُ
على غضِّ البصر أيسرُ مِن الصبر على ألَمِ ما بعده .
وهذا الكتابُ أنصحك باقتنائه وقراءته بتأمُّل؛ أعني كتاب: الداء والدواء .
الأخ الكريم، كنْ صادقًا مع نفسك كما أنت، واسألْ نفسك: هل ترغب
حقًّا في الارتباط بالفتاة؟
والجوابُ يحتاج منك - مع الصدق - إعمال العقل والتأنِّي والتفكير المتَّئِد،
فإن كان الجوابُ: نعم، فابحثْ عن طريقةٍ مناسبةٍ للتواصل معها،
عن طريق بعض النساء العاقلات؛ لتُبَيِّن لها جدِّيتك في الأمر،
وما تُريده منها، وما هي مُقْبِلة عليه من حياةٍ محكومةٍ بالشريعة
السمحة، والبقية بعد ذلك تعرفها أنتَ مِن بذْلِ الجهد في تعليمها
ما تَجْهَلُه مِن دينها، ولكن كلُّ هذا يتوقَّف على استعدادها
واستسلامها لله تعالى.
وأمَّا إنْ كنتَ لا تريد ذلك، فاقطَعْ تلك الخطَرات والنظَرات، وابتَعِدْ عنها،
واسعَ في الانتقال لمكانٍ آخر بعيدٍ عنها وعن النِّساء، فإن تَعَذَّرَ فابحثْ
عن عمَلٍ آخَرَ، فالسلامةُ في الدين لا يَعدِلها شيء، ولحين وجود ذلك،
عليك بالعمل بوصايا شيخ الإسلام ابن القيم رحِمَه الله التي أشَرْنا إليها.
أمَّا دعوةُ الفتاة للحجاب، فلا يخفى على مِثْلك - سلَّمك الله - أنَّ دعوة
النساء الأجنبيات يُمكن أن تكونَ عن طريق إعطائها بعض الرسائل
اللطيفة عن الحجاب، والالتزام بشَرْع الله تعالى، وكذلك بعض الموادِّ المسموعة.
وفي الختام:
أخي الكريم، أُذَكِّرك بأمر مهمٍّ، وهو: أنَّ هوى النفس هو الدافعُ الأول
والأقوى لكل تجاوُز، ولكلِّ معصيةٍ، بل هو أساسُ كلِّ بَلْوى،
وأصلُ كلِّ شرٍّ، وقلَّ أن يُؤتَى الإنسانُ إلا مِن قِبَل الهوى،
حتى الجهل فإنه سَهْلٌ علاجُه، بخلاف هوى النفس الذي
يكون بعد العلم، فإنه الموتُ الأحمر، وآفةُ النفس، ومِن ثَمَّ يحتاج
لجهادٍ مريرٍ طويلٍ مع النفس، والمدَد والعون بالاستعانة والاستعاذة،
وصِدْق اللجوء والتوكُّل والتفويض؛ لتحصيل تقوى الله تعالى،
والخوف مِن مقامه سبحانه؛ فهذا هو الحاجزُ الحقيقيُّ بين القلب والهوى؛
قال الله تعالى:
{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }
[النازعات: 40، 41].
أسأل الله أن يَهْدِيَنا ويُسَدِّدنا، ويَمُنَّ علينا بمنْزِلة الخوف والتقوى