(اللَّهُمّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لاَ يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ،
وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ)([1]).
المفردات:
لا يرتدّ: لا يرجع من الإسلام إلى الكفر.
لاينفد: لا ينقطع.
الشرح:
هذا الدعاء العظيم من الأدعية العظيمة؛ لاشتماله على أعظم المقاصد،
وأرجى المطالب، وأعلى الأماني في الدنيا والآخرة، فقد دعا به من خيرة
الصحابة الميامين عبد اللَّه بن مسعود رضى الله عنه في مرافقة سيد الأولين
والآخرين في أعلى جنات النعيم، ولا شك أن هذا أعظم وأعلى المنازل؛ ولهذا
كان رضى الله عنه يلازم هذا الدعاء في خير الأعمال، وأفضلها، ألا وهي
الصلاة، فقد كان رضى الله عنه يقول:
((قد صليت منذ كذا وكذا، ما صليت فريضة ولا تطوعاً إلا دعوت اللَّه به
في دبر كل صلاة))([2])، ويقول رضى الله عنه
((إنه من دعائي الذي لا أكاد أن أدع))([3])، أي هذا الدعاء، وهذا يدل
على كمال همّته، وشدّة حرصه لمطلوبه، وسبب هذا الدعاء، أن رسول اللَّه
صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وهو مع أبي بكر وعمر، وإذا ابن مسعود
يصلي، وإذا هو يقرأ (النساء)، فانتهى إلى رأس المائة، فجعل ابن مسعود
يدعو وهو قائم يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
((اسأل تعطه، اسأل تعطه))([4]) .
قوله: ((اللَّهم إني أسألك إيماناً لا يرتد)):
أي أسألك يا اللَّه إيماناً ثابتاً قوياً، لا شكّ فيه، ولا تردّد، وأن تعصمني
من الوقوع إلى الردّة وهي الكفر، وهذا أعظم مطلوب في الدنيا؛ لأنه أفضل
الأعمال عند اللَّه تعالى، فعن عبد اللَّه بن حُبشي الخثعمي أن النبي
صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل؟ قال ((إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ))([5]) .
قدم دعاءه في سؤال اللَّه تعالى الإيمان الثابت قبل سؤاله أعلى الجنان؛
لأنها لا تنال هذه المنزلة العلية إلا بالإيمان الكامل.
قوله: ((ونعيماً لا ينفد)):
أي نعيماً دائماً لا ينتهي، ولا ينقص، ولا ينقطع، وهو نعيم الجنة،
قال اللَّه تعالى:
{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}([6])،
أما النعيم في الدنيا، فهو زائل، ومنقص، قال اللَّه تعالى:
{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ}([7]).
وقوله: ((ومرافقة نبينا محمد في أعلى جنة الخلد)):
بعد أن سأل اللَّه النعيم المقيم في الجنة، سأل اللَّه الكريم العظيم أن يكون
مرافقاُ للنبي صلى الله عليه وسلم في أعلى درجة من الجنة، وهو من عطف
الخاص على العام؛ لعظم أهمية هذه المرتبة والمنزلة، فهي أعظم النعيم،
وأرفعه، وأكمله، وأعلاه، في أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في
أعلى درجات الجنان، ولا شك أنه أعظم مطلب أخروي، عظم رغبته
رضى الله عنه عملاً في قوله صلى الله عليه وسلم
((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيُعْظِمْ رَغْبَتَهُ
فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَعْطَاهُ))([8]).
وقوله: <في أعلى درجة الجنة>: لأن في الجنة مائة درجة،
قال صلى الله عليه وسلم
((فإِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ
كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ))([9]) .
وأعلى درجة هي الفردوس الأعلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم
((والفردوس أعلاها درجة)) ([10]).
ولهذا حثنا صلى الله عليه وسلم أن نسألها:
((فإذا سألتم اللَّه تعالى فسلوه الفردوس الأعلى))([11]).
وقال صلى الله عليه وسلم
((إذا سألتم اللَّه تعالى فأسألوه الفردوس، فإنه سر الجنة))([12])،
أي أفضل موضع فيها.
وفي رواية أخرى عنه أنه دعا فقال:
((ومرافقة محمد في أعلى عليين في جنانك، جنان الخلد))([13]).
وهذه الرواية تفسر الرواية السابقة، وهي سؤاله أن يكون في أعلى الجنان،
لأن ((عليّون))، صيغة مبالغة من العلوّ، علوّ المكانة والارتفاع، وعلوّ
المنزلة والقدر في الجنة، قال اللَّه تعالى:
{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}
ثم فخمه وعظم مرتبته وشأنه
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ *يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} ([14]) .
قال الفرّاء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له([15])، ووجه هذا أنه
منقول من جمع عليّ من العلو، قال الزجاج: هو أعلى الأمكنة.
قال ابن كثير: والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع
عظم واتسع، ولعظم شأن هذا المكان قال اللَّه تعالى
{ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} ([16]) أي الملائكة المقربون([17]) .
([1]) أخرجه ابن حبان، 5/ 303، برقم 1970، عن ابن مسعود t موقوفاً،
ورواه أحمد من طريق آخر، 7/359، برقم 4340، والنسائي في عمل اليوم
والليلة، برقم 869، والحاكم، 3/ 317، وبنحوه الطبراني في الكبير،
7/ 453، برقم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، تحت رقم 2301،
وفي التعليقات الحسان، برقم 1967.
([2]) تاريخ ابن عساكر، 33/96، وبنحوه أحمد، 7/ 359، برقم 4340 .
([3]) صححه لغيره الأرناؤوط في تعليقه على مسند
أحمد، 6/178، برقم 3662.
([4]) مسند أحمد، 7/ 359، برقم 4340، ومسند ابن راهويه، 1/ 84،
وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، 5/ 379، برقم 2301، وصححه
بشواهده الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 7/ 359.
([5]) النسائي، كتاب الزكاة، جهد المقل، برقم 2526، والسنن الكبرى له،
2/ 31، برقم 2317، وأحمد، 24/ 122، برقم 15401، والبيهقي، 3/ 9،
وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1504، وفي صحيح
الترغيب والترهيب، برقم 1318.
([6]) سورة ص، الآية: 54 .
([7]) سورة النحل، الآية: 96 .
([8]) مسند أحمد، 16/ 6، برقم 9900، وقال محققو المسند:
((إسناده صحيح على شرط مسلم)). وفي حديث لمسلم، برقم 2678:
((إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة
وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)).
([9]) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين
في سبيل الله، برقم 2790 ، والترمذي، واللفظ له، كتاب صفة الجنة،
باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم 2530 .
([10]) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة،
برقم 2531 ، وأحمد، 37/ 369، برقم 22695، وابن أبي شيبة، 13/
138، برقم 35211، والضياء في المختارة، 3/ 337، وصححه الألباني
في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 921، وصحيح الترمذي، برقم 2531.
([11]) أخرجه الطبراني في الكبير، 3/231، برقم 3235، وابن حبان،
3/238، برقم 958، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم 945،
وأصله في صحيح البخاري، برقم 2790، ورقم 7423.
([12]) أخرجه الطبراني في الكبير، 18/254، برقم 635، والبيهقي في
البعث والنشور، ص 231، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة،
برقم 2145، وصحيح الجامع، برقم 592.
([13]) رواه الحاكم 3/ 317، وصححه ووافقه الذهبي، وبنحوه في مسند
أحمد، 7/ 359، برقم 4340، وابن حبان، 5/ 303،وصحح إسناده
بشواهده الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 7/ 359، وحسنه الألباني
في التعليقات الحسان، برقم 1967.
([14]) سورة المطففين، الآيات: 18-21 .
([15]) معاني القرآن، 3/ 247.
([16]) سورة المطففين، الآية: 21 .
([17]) تفسير ابن كثير ص 1693 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق