نظرا لاختلاف الظواهر اللفظية التي أنزل عليها القرآن
الكريم فقد تعددت
قراءاته ورواياته، وكثر الناقلون لهذه القراءات، وكان
عددهم كبير جدا
في عصر الصحابة والتابعين ثم لم تزل الأمة تنتقي
وتختار – وفق ضوابط
علمية عالية لقبول الرواية – من هذه القراءات حتى طغى
الاختيار السباعي
للقراءات في القرن الثالث الهجري على الاختيارات
الأخرى.
القراءات هى
وهو ذلك الاختيار المنقول عن سبع من الأئمة الكبار
تميزوا بخصائص
إتقان نادرة جعلتهم مؤهلين لأن يكونوا فلكا تنسب إليه
القراءات
الصحيحة للقرآن الكريم، وقد تبلورت فكرة الاختيار هذه
على يد
الإمام أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد
الملقب بـ
( مُسبّع السبعة ) - وهو شيخ قراء زمانه، تلميذ الطبري
وشيخ
الدارقطني - الذي ألف عام 300 للهجرة كتابه: " قراءات
السبعة "
جمع فيه قراءة: نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن
عامر، وعاصم،
وحمزة، والكسائي، وهم أئمة قراء الأمصار الخمسة:
المدينة، ومكة،
والبصرة، والشام، والكوفة، وقد لاقى هذا العمل قبولًا
عند علماء
القراءات، ورواجا كبيرا عند جمهور الأمة
.
إلى جانب هذا الاختيار للقراءات
الصحيحة
عرف عدد آخر من الاختيارات
الأخرى:
• فأبو حاتم السجستاني (المتوفى سنة 255
هـ)
روى 24 قراءة منها 4 من القراءات السبع و20 قراءة
أخرى.
• وأبو جعفر الطبري (المتوفى سنة 310 هـ) كان له
اختيار جمعه
من بين 22 قراءة قرأ بها وضمنها في كتابه القراءات
.
• وروى الإمام الهذلي (المتوفى سنة 465 هـ) في كتابه
الكامل
50 قراءة عن الأئمة، و1459 رواية وطريقا
.
• واشتهر كذلك اختيار ابن الجزري (المتوفى سنة 833 هـ)
العشري
للقراءات؛ الذي أضاف فيه قراءة ثلاثة من الأئمة
المتقنين للقراءات
السبع، وهم أبو جعفر المدني ويعقوب الحضرمي وخلف
العاشر
ليصبح العدد الإجمالي للقراءات المتواترة عشر قراءات،
ومعظم القراء
ومدارس القراءات في العصر الحديث يعتمدون اختيار ابن
مجاهد
مضافا إليه استدراك ابن الجزري؛ فهم يقرؤن بالعشر
.
بقي الاختيار السباعي للقراءات هو الرائج والمنتشر
بين أوساط
المسلمين كافة، حتى ظهرت نصوص من بعض الفقهاء تحصر
القراءات
المتواترة في القراءات السبع وتفسر الأحرف السبع التي
أنزل عليها
القرآن بأنها السبع
القراءات
[انظر: تحفة المحتاج في شرح
المنهاج
وحواشي الشرواني والعبادي في الفقه الشافعي
]
ولا ريب أنها غير صحيحة لكنها تبين – وبوضوح - أن
الأثر الذي وصله
اختيار ابن مجاهد لم يصله أي اختيار آخر، وتوضح إلى
أي مدى تغلغل
هذا الاختيار حتى في أوساط المتخصصين والفقهاء ناهيك
عن عامة الناس.
والذي سنحاول الإجابة عنه في هذه المقالة؛
هو:
أولاً: لماذا جعلت هذه القراءات سبعا؟ ولم تكن ثلاثاً أو
أربعاً مثلاً؟!
ثانياً: لماذا اختير هؤلاء القراء بأعينهم: ( نافع وابن كثير
وأبوعمرو ...)
دون غيرهم؟ ولماذا اختير نافع - مثلا - دون مشايخه
الذين اشتهروا
بالإتقان وتواترت قراءتهم مثل أبي جعفر المدني الذي
لا نجد قراءته
إلا في الثلاث المتممة
للعشر؟!
أما عن التساؤل الأول:
وهو لم جعلت هذه القراءات سبعا؟ لم لم تكن أكثر أو
أقل؟ فيجيب عنه
الإمام مكي بن أبي طالب القيسي؛ حيث يقول: " الجواب
أنها جعلت
سبعا لعلتين: إحداهما: أنعثمان رضي الله عنه كتب سبعة
مصاحف،
ووجه بها إلى الأمصار، فدل عدد القراءات على عدد
المصاحف .
والثانية: أنه جعل عددها على عدد الحروف التي نزل بها القرآن،
على أنه
لو جعل
عددها أكثر أو أقل لم يمنع ذلك، لأن عدد الرواة الموثوق بهم
أكثر
من أن
يحصى، وقد ألف ابن جبير المقري - وكان قبل ابن مجاهد -
كتاباً
في القراءات وسماه كتاب الخمسة ذكر فيه خمسة من
القراء، وألف غيره
كتابأً وسماه الثمانية وزاد على هؤلاء السبعة يعقوب
الحضرمي ... وهذا
باب واسع وإنما الأصل الذي يعتمد عليه في هذا: أن ما
صح سنده،
واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط المصحف فهو
من السبعة
المنصوص عليها، ولو رواه سبعون ألفاً مفترقين أو
مجتمعين فهذا
هو الأصل الذي بني عليه من قبول القراءات عن
سبعة
أو سبعة آلاف فاعرفه وابن عليه "
.
ما العلة التي من أجلها اشتهر هؤلاء السبعة بالقراءات
؟
وعن التساؤل الثاني: وهو ما العلة التي من أجلها
اشتهر هؤلاء السبعة
بالقراءات دون من هو فوقهم؟ أو من هو في طبقتهم؟
فنسبت إليهم
الأحرف السبعة مجازاً وصاروا من زمانهم إلى وقتنا هذا
أشهر من
غيرهم، ممن كان مساو لهم في العلم والإتقان أو هو
أفضل منهم
وأعلى رتبة وقدراً
وسنداً؟!
يجيب عن هذه التساؤلات الدمياطي (تـ
1117هـ):
فيقول: " ... ليعلم أن السبب الداعي إلى أخذ القراءة
عن القراء
المشهورين دون غيرهم أنه لما كثر الاختلاف فيما
يحتمله رسم
المصاحف العثمانية التي وجه بها عثمان رضي الله عنه
إلى الأمصار
( الشام واليمن والبصرة والكوفة ومكة والبحرين
)
وحبس بالمدينة واحداً - الذي يقال له الإمام - فصار
أهل البدع والأهواء
يقرؤون بما لا يحل تلاوته وفاقاً لبدعتهم، أجمع رأي
المسلمين أن يتفقوا
على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن
العظيم فاختاروا
من كل مصرٍ به مصحف عثماني أئمة مشهورين بالثقة
والأمانة في النقل
وحسن الدراية وكمال العلم، أفنوا أعمارهم في القراءة
والإقراء، واشتهر
أمهرهم، وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم، ولم تخرج
قراءتهم عن خط مصحفهم ".
ويقول الفضل بن الحسن الطبرسي (تـ
548هـ):
" وإنما اجتمع الناس على قراءة هؤلاء واقتدوا بهم
لسببين:
أحدهما: أنهم تجردوا لقراءة القرآن، واشدت بذلك عنايتهم، مع
كثرة
علمهم، ومن كان قبلهم أو في زمنهم ممن نسب إلى
القراءة من العلماء
وعدت قراءاتهم في الشواذ لم يتجردوا لذك تجردهم، وكان
الغالب على
أولئك الفقه أو الحديث أو غير ذلك من العلوم .
ثانيهما: أن قراءتهم وجدت مسندة لفظاً أو سماعاً حرفاً حرفاً
من أول
القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم وكثرة علمهم
بوجوه القرآن".
ويقول مكي بن أبي طالب:
" الرواة عن الأئمة من القراء كانوا في العصر الثاني
والثالث كثيراً
في العدد، كثيراً في الإختلاف، فأراد الناس في العصر
الرابع أن يقتصروا
من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه،
وتنضبط القراءة
به، فنظروا إلى إمام مشهور بالثقة والأمانة في النقل،
وحسن الدين
وكمال العلم، واشتهر أمره وأجمع أهل مصره على عدالته
فيما نقل،
وثقته فيما قرأ وروى، وعلمه بما يقرئ به، ولم تخرج
قراءته عن
خط مصحفهم المنسوب إليهم، فأفردوا من كل مصر وجه إليه
عثمان
رضي الله عنه مصحفاً، إماماً هذه صفته وقراءته على
مصحف ذلك
المصر، فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من
أهل
الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير
من أهل مكة،
وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة، كلهم
ممن اشتهرت
أمانته، وطال عمره في الإقراء، وارتحل الناس إليه من
البلدان، ولم يترك
الناس مع هذا النقل ما كان عليه أئمة هؤلاء من
الإختلاف ولا القراءة بذلك "
ويضيف أبو شامة رحمه الله
معللاً:
" وهؤلاء السبعة لزموا القيام بمصحفهم وانتصبوا
لقراءته، وتجردوا
لروايته، ولم يشتهروا بغيره، واتبعوا ولم يبتدعوا،
وقد كان في وقتهم
جماعة في مصر كل واحد منهم من القَرَاء ولم يجتمعوا
عليهم لأجل
مخالفتهم للمصحف في يسير من الحروف
".
القراءة و الرواية و الطريق و الوجه
:
تجدر الإشارة إلى أن مصطلح القراءات مرتب على أربع
مراتب؛ وهي:
القراءة فالرواية فالطريق فالوجه، فالقراءة: هي: ما
ينسب إلى إمام من
السبعة أو العشرة أو الأربعة عشرة أو غيرهم؛ كفتح
سين:
{ مُرْسَاهَا }
[هود: 41]،
لعاصم، والرواية: ما ينسب إلى الراوي عن الإمام؛
كإمالة:
{ مَجْرَاهَا }
[هود: 41]
لحفص عن عاصم، والطريق: ما ينسب إلى مَنْ دون الراوى؛
كإدغام:
{ ارْكَبْ مَعَنَا }
[هود: 42]
من طريق الهاشمى عن حفص عن عاصم، أما الوجه: فلا
ينسب
إلى أحد، إذ هو مخير فيه عند الجميع، كالوقف
على
{ نَسْتَعِينُ }
[الفاتحة: 5]
بالسكون، أو الروم: وهو الإتيان ببعض الحركة، أو
الإشمام: وهو
هنا الإشارة إلى ضمة النون بضم الشفتين من غير صوت
.
وهنا لا بد من التنبيه إلى
أن إضافة هذه القراءات إلى شخص معين إنما هي إضافة
ملازمة
واعتناء واختيار من بين القراءات الواردة، حسب ظروفه
لا لأنه
اخترعها، وقد كان بعض السلف يكره أن تنسب القراءة إلى
شخص
معين؛ كأن يقال: قراءة فلان؛ لكن دائرة الرواية لما
اتسعت، وبَعُدَ
العهد، وتشعبت الأسانيد، وكثُر الرواة احتاج الناس
لضبط هذا الشأن
فنسبت القراءات والروايات إلى أشهر من رواها من
المحققين الأعلام،
حتى استفاض استخدام هذا اللفظ على لسان السلف -
أنفسهم،
عليهم رحمة الله - في الموطإ والصحيحين
وغيرهما.
وكثيرا ما يستخدم المفسرون
مصطلح
" قراءة النبى صلى الله عليه وسلم " ويعنون به أن أهل
الحديث
نقلوها عنه ولم يدونها القراء من طرقهم، وإلا فجميع
القراءات