الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد
:
فيجب على الداعية المنصف أن يتأدب مع المخالفين
،
وأن يتسع صدره لانتقاداتهم ، والتي قد لا تكون منصفة
بدورها ،
فهم وإن عصوا الله – تعالى - فيه فلا يبرر ذلك أن
نبادلهم معصية بأخرى .
وقد بلغ الإنصاف بالإمام ابن تيمية - رحمه الله
-
أن اتسع صدره لمن كفّره وبدّعه وفسّقه ، فيقول في
كلام بديع :
[ وَأَنَا فِي سعَةِ صَدْرٍ
لِمَنْ يُخَالِفُنِي ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تَعَدَّى حُدُودَ
اللَّهِ فِيَّ بِتَكْفِيرِ،
أَوْ تَفْسِيقٍ ، أَوْ افْتِرَاءٍ ، أَوْ عَصَبِيَّةٍ
جَاهِلِيَّةٍ ؛ فَأَنَا لا أَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فِيهِن
،
بَلْ أَضْبُطُ مَا أَقُولُهُ وَأَفْعَلُهُ ،
وَأَزِنُهُ بِمِيزَانِ الْعَدْلِ ،
وَأَجْعَلُهُ مُؤْتَمًّا بِالْكِتَابِ الَّذِي
أَنْزَلَهُ اللَّهُ
وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ حَاكِمًا فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ ]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً
وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
}
[ البقرة : 213 ]
وَقَالَ تَعَالَى :
{ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ }
[ النساء : 59 ]
وَقَالَ تَعَالَى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }
[ الحديد : 25 ]
وَذَلِكَ أَنَّك مَا جَزَيْت مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك
بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ
:
{ إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ
هُمْ مُحْسِنُونَ }
[ النحل : 128 ]
ومن الأدب مع المخالفين :
أن يتورع المسلم عن لمزه أو الإساءة إليه بأي صورة
مِن الصور ،
ولا سيما إن كان ذلك يجره إلى التقول عليه بغير علم
،
أو رميه بما ليس فيه ،
فإن صفة المؤمنين هي أن ينزهوا أنفسهم عن الصيد في
الماء العكر ،
واستغلال الفرص للإساءة للمخالفين .
ويأتينا الدرس هنا مِن
النساء
وقد اعتدنا في دنيا النساء على التخليط وترديد
الإشاعات ،
والنيل مِن المخالفات عن طريق الغيبة ، والوقوع في
الأعراض ،
لكن هذا المثل السامق يكشف لنا عن طيب معدن المرأة
المسلمة
في موقف زينب بنت جحش - رضي الله عنها
-
مِن محنة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها
-
الطاهرة المبرأة لما قيل في حقها ما هي بريئة منه ،
وكانت محنة للجميع ،
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة تُرمى في أعز ما تعتز
به ،
ترمى في شرفها ، وهي ابنة الصديق الناشئة في العش
الطاهر الرفيع ،
وترمى في وفائها ، وهي الحبيبة المدللة القريبة مِن
ذلك القلب الكبير ،
ثم ترمى في إيمانها ، وهي المسلمة الناشئة في حجر
الإسلام ،
من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة
،
وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ها هي ذي ترمى ، وهي بريئة غافلة ، لا تحتاط لشيء
،
ولا تتوقع شيئًا ؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في
جناب الله ،
وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا تبرئها مما رميت به ،
ولكن الوحي يتلبث ـ
لحكمة يريدها الله ـ شهرًا كاملاً ، وهي في مثل هذا
العذاب .
ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها قبل نزول القرآن ببراءتها
،
فكان ممن سألهم : زوجه السيدة زينب بنت جحش - رضي الله عنها
،
فماذا كان ردها ؟.
قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها
:
( وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ َسْأَلُ زَيْنَبَ بْنَت جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي
,
فَقَالَ لزَيْنَبُ : مَاذَا عَلِمْتِ , أَوْ رَأَيْتِ
؟.
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي ,
وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلا
خَيْرًا.
قَالَتْ عَائِشَة
ُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ
تُسَامِينِي
مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ
)
[ متفق عليه ]
وهكذا المؤمنون في غيرتهم أو خلافاتهم قوم أطهار
يطلبون المعاذير ،
ويبعدون عن أنفسهم قول السوء وظن السوء
،
ويدركون حجم الأذى الذي قد تمثله كلمة في غير موضعها
،
ولذا قيل : إن المؤمن لسانه من وراء قلبه ، إن تكلم بكلمة مرت
على قلبه ،
فإن أنكرها ؛ تورع عنها ، وإن أقرها ؛ تكلم بها
،
والمنافق عكس ذلك يسعى بالسوء ويحب الإساءة
.
وهذا ما وصفه الله – تعالى
-
متوعدًا أولئك الذين يرمون الناس بما ليس فيهم فقال
:
{ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ
يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُّبِينًا }
[ النساء : 112 ]
وهذا ما قاله – أيضًا - الرسول الكريم - صلى الله
عليه وسلم
فيما ما صح في الحديث :
( آيَةَ الْمُنافِق ثَلاثٌ
: إِذا حَدَّثَ كَذَب ، وَإِذا وَعَد أَخْلَفَ ،
وَإِذا اؤْتُمِنَ خَانَ )
[ متفق عليه ]
وفي الحديث الآخر :
( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا
خَالِصًا ,
وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ
فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ , حَتَّى يَدَعَهَا
:
إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ،
وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ
)
[ متفق عليه ]
فهو فاجر في خصومته يرمي الآخرين بما ليس فيهم
.
ومن الأدب مع من يخالفك : عدم الإلزام بما لم يلتزمه المخالف
،
فمن الإنصاف : عدم تقويل الشخص ما لم يقله ، أو إلزامه بما لم
يلتزم به ،
وعدم تحميله ما لم يتحمله ، وإزالة اللبس عن كلامه
،
وحمل كلامه على ما يريد ،
ولو استطاع أن يحمله على أحسن المحامل فذاك حسن
.
ونبراسنا في هذا :
ما جاء في الحديث عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي
الله عنه – قَالَ :
( بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَرِيَّةٍ ،
فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ ،
فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً ،
فَقَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ، فَطَعَنْتُهُ
.
فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِك َ، فَذَكَرْتُهُ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَقَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ
؟
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا
مِنْ السِّلاحِ .
قَال َ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ
أَقَالَهَا أَمْ لا ؟ ،
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ
أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ )
[ متفق عليه ]
فمن الإنصاف : أن لا نسيء الظن بغير بينة واضحة
،
بل يجب أن نكف في حال اللبس حتى تكون الصورة واضحة
جلية ،
( روي أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن
الشهادة،
فقال له :هل ترى الشمس ؟ .
قال : نعم .
قال : على مثلها فاشهد أو دع
)
[ رواه الحاكم والبيهقي ، وضعفه الحافظ ابن حجر وغيره
،
وقال ابن حزم - رحمه الله : لا يصح سنده ، لكن معناه
صحيح ]
يقول ابن القيم - رحمه الله
:
[ وكل أهل نحلة ومقالة يكسون
نحلتهم
ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه مِن الألفاظ
،
ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه مِن الألفاظ ،
ومَن رزقه الله بصيرة ،
فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق
والباطل،
ولا تغتر باللفظ ]
كما قيل في هذا المعنى :
تـقـول هــذا جنى النـحل تمـدحـه
وإن شـئت قلت ذا قيء الزنابـيـر
مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما
والحـق قـد يعـتـريه سوء تعـبيـر
فإذا أردتَ الاطلاع على كنه المعنى : هل هو حق أو
باطل ؟
فجرده من لباس العبارة ، وجرد قلبك عن النفرة والميل
، ثم أعط النظر حقه،
ناظرًا بعين الإنصاف ، ولا تكن ممن ينظر في مقالة
أصحابه
ومَن يحسن ظنه به نظرًا تامًا بكل قلبه
،
ثم ينظر في مقالة خصومه ومَن يسيء ظنه به كنظر الشزر
والملاحظة ؛
فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ ، والناظر
بعين المحبة عكسه ،
وما سلم مِن هذا إلا مَن أراد الله كرامته ، وارتضاه
لقبول الحق ،
وقد قيل :
وعـيـن الرضا عـن كل عيب كـليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
وقال آخر :
نظروا بعين عداوة لو أنها
عين الرضا
لاستحسنوا ما استقبحوا
ولهذا جاء في دعائه - صلى الله عليه وسلم
:
( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي
الأَمْرِ ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ
،
وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ , وحُسْنَ
عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا ، ولِسَانًا
صَادِقًا ،
وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ ، وَأَعُوذُ
بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ ،
وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ ، إِنَّكَ أَنْتَ
عَلامُ الْغُيُوبِ )
[ رواه أحمد والنسائي وابن حبان ، وصححه الألباني
]
ومن الأدب مع المخالف :
الإنصاف في نقل الشبهات عن أهلها والرد عليها
،
ونقصد بذلك أن المسلم إن احتاج أن ينقل شبهة قد
انتشرت واستشرت
فلينقلها دون أن يُغفل بعض مواطنها ؛ ليكون منصفًا
،
فإنه لا بد أن ينقلها بأمانة .
وليعلم بأن على الحق نورًا ، وأن عليه أن يبحث عن
الحق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق