موسوعة المؤرخين (57)
حاجي خليفة وكتابه كشف الظنون (الجزء الثاني)
وإذا ما استعرضنا الأحداث التاريخية التي عاشها حاجي خليفة كمواطن
وكموظف في الدولة، وكمثقف واع، فإننا سنرى فيما بعد كيف اعتملت هذه
الأحداث في نفسه وأثرت في شعوره، وسنراه يرفض الوظيفة ويزهد فيها
ليتفرغ إلى البحث والتأليف.
ونشير هنا إلى بعض الأحداث الأخرى التي عاشها المؤلف لنعرف مقدار
التعفن الإداري الذي كان من شانه أن يزهد بعض الأحرار
في الأعمال الرسمية للدولة.
حاجي خليفة في عهد السلطان إبراهيم
فمراد الرابع الذي كان حاجي خليفة من موظفيه في حسابات الجيش، خلفه
أخوه السلطان إبراهيم من سنة (1050هـ - 1058هـ / 1640م –
1648م)، وإذا كنا قد عرفنا بعض الأحداث التي أترث في نفسية المؤلف
والتي عاشها في عهد السلطان مراد الرابع فلا بأس أن نعطي نظرة وجيزة
عن عهد إبراهيم السلطان العثماني الذي عاش المؤلف كذلك جزء من
حياته في خدمته.
فالسلطان إبراهيم في أول عهده ترك أمر تصريف شؤون الدولة إلى وزيره
(قرة مصطفى)، وكان هذا الوزير مشهورا بالدهاء والقدرة على تسير الأمور
إلا أنه مهما يكن من قدرته فإن إسناد التصرف المطلق لوزير مهما كان
أمره يصبح مبعثا للدسائس والمؤامرات .. وهذا الذي حدث فعلا ففي سنة
1054هـ / 1644م أمر السلطان إبراهيم بقطع رأس الوزير
نتيجة للدسائس!!
وبعد ذلك وقع السلطان إبراهيم تحت نفوذ أمه ومحظياته، وسيطر على
السلطان إبراهيم وعلى شؤون الدولة شخص آخر لا يتسم بصفات الوزير
الأول وهو (جنجي خوجة حسين) الذي زين للسلطان السبيل
في طريق الملذات والشهوات.
واستنفذت الملذات والشهوات كل موارد الدولة في عهد إبراهيم وساءت
الحال، وانهزم أسطوله أمام أسطول البندقية مرة أخرى ففكر على أثر هذا
الانهزام في ذبح المسيحيين إلا أنه استجاب لنهي علماء الإسلام له عن ذلك
واستمر يحارب ربع قرن تقريبا، فأنهكت حروبه وشهواته خزينة الدولة
وثارت عليه فرقة الإنكشارية بمساندة العلماء فخلع وشنق سنة
105هـ /1648م.
هذه الأحداث كلها كانت تحت سمع وبصر المؤلف عاشها وضميره ووجدانه.
وبعد شنق إبراهيم أصبح نفوذ الانكشارية قويا جدا في الدولة، حيث ظفرت
هذه الفرقة من الجيش بسلطة كبيرة فكانت تنصب السلاطين وتخلعهم
كما نشاء.
لماذا استقال حاجي خليفة من وظيفة الجيش؟
وفي عهد السلطان إبراهيم هذا قدم المؤلف استقالته من وظيفة الجيش،
وهذه السنة التي استقال فيها هي السنة الانتقالية في عهد إبراهيم أي السنة
التي قطع فيها السلطان إبراهيم رأس وزيره المقتدر (قره مصطفى)
ومن ثم جد السلطان في تلبية شهواته.
وليس معنى هذا أننا نربط بين حادثة القتل وحادثة الاستقالة، ولكننا نربط
هذه الاستقالة وبين فساد الأوضاع في إدارة الدولة. أما السبب المباشر
لاستقالة المؤلف فهو يذكره بنفسه في ترجمته لحياته في آخر تأليفه "ميزان
الحق في اختبار الأحق"، حيث يشير إلى نزاع وقع بينه وبين باشا خليفة
الذي هضم حقوقه في الخدمة الرسمية وكان ذلك سنة 1055هـ / 1644م
وفي هذه السنة كان المؤلف قد انتقل في عمله إلى قسم تخطيط الخرائط
بالجيش، ولكنه على أثر بخس حقوقه الواجبة له، قرر أن يعتزل الخدمة
نهائيا وأن يتفرغ للبحث والتأليف.
وهذه الحادثة التي يرويها لنا المؤلف كان من شأنها أن ترهق إحساسه
بفساد الأوضاع. وكانت هذه الأحداث بعامة، والأوضاع الإدارية في الدولة
مما يشغل بال المؤلف. ولذلك حاول أن يدلي بدلوه في إصلاح الأوضاع
أو على الأقل التنبيه لما هي من فساد فألف كتابه "دستور العمل، لإصلاح
الخلل". ولعل التأليف السالف الذكر "ميزان الحق في اختيار الأحق"،
هو مساهمة من المؤلف في محاولة التنبيه على ضرورة إصلاح الأوضاع،
لكن الانحدار كان أقوى من أن يرده نداء مهما يكن صادقا !!
الجمعة، 18 يونيو 2021
موسوعة المؤرخين (57)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق