أطفال لا يريدون الكذب
انبعث صوت مرتفع من داخل شرفة واسعة تطل على حديقة جميلة تنتشر فيها الورود والزهور بكثرة مما جعلها قِبلة للناظرين
كما يقبل على روائحها الكبير والصغير.
إياد: أمي، أمي، أين أنت؟
الأم: أنا هنا يا إياد، هيا بدل ملابس اللعب واستعد للمذاكرة.
إياد: أين أبي؟
الأم: إنه نائم، ولن يستيقظ قبل ساعة، هل تريد منه شيئًا؟
إياد: لا، لا.
بدا الاطمئنان على وجه إياد، ذلك الفتي الناشئ صاحب الملامح المائلة للون الأسمر،
الذي بدأ دراسة الصف الخامس الابتدائي منذ شهر أو يزيد بأيام؛ وقال في نفسه:
• الحمد لله أن والدي نائم، سوف أذهب بسرعة لأبدل ملابسي فلو شاهدني والدي لوجَّه إليَّ السِّباب والعتاب كعادته؛
فأنا في نظره مهمل وأهتم بأشياء غير مفيدة.
مرت نصف ساعة تغيرت فيها هيئة إياد فبدا في جلباب بسيط وفي يده كتاب من كتب المدرسة يبدو للناظرين
أن أوراقه قد ذبلت من كثرة المذاكرة على خلاف حقيقة تعامل إياد العنيفة مع كتبه ودفاتره.
دخل إياد غرفة خصصها أبوه لنفسه "يدبر فيها أمور أعماله، ويحتفظ فيها بكتب ومستندات وأشياء تخصه"؛
كي يبحث عن أقلام من النوع الفاخر اعتاد أن يختلسها من أشياء أبيه، ولفت نظره أن جهاز الحاسوب ليس مغلقًا؛
فاقترب منه بخطوات حذره قلقه، وبدأ يعبث به ويرسل نظرات حائرة بين الشاشة وبين باب الغرفة.
دخل على شبكة الإنترنت وأتبعها بحركات وطرقات على الفارة؛ فإذا به أمام صفحة أبيه على شبكة التواصل الاجتماعي،
وانصرفت عيناه عن مراقبة الباب وانشغل بكل جوارحه بما عثر عليه، ودفعته طبيعته إلى تفحص كل ما يخص تلك الصفحة الثرية
حتى وصل إلى الرسائل؛ ففتحها، وبدأ يقرأ ذلك الحوار الذي دار بين أبيه ووالد زميله عموري بكل حواسه؛ فغاب عن كل ما حوله:
• السلام عليكم يا أبا إياد.
• عليكم السلام، يا أبا عموري.
• هاتفك مغلق منذ الصباح، وعلمت أنك لم تذهب إلى العمل اليوم.
• أعاني من بعض المشاكل الصحية والإرهاق.
• سلمك الله، ألم تذهب إلى الطبيب؟
• بلى؛ ذهبت، وأخبرني بأن الضغط مرتفع وكتب لي أدوية ونصحني بالراحة لأيام.
• حسنًا، سوف أحضر أنا وولدي عموري لزيارتك في الليل إن شاء الله.
• على الرحب والسعة، وكيف حال عموري؟
• الحمد لله، فاز بكأس ببطولة الشِّطْرَنج أمس، وحضرت تكريم النادي له، وعشنا أوقات طيبة.
• ألا تخشى أن تشغله اهتماماته الكثيرة عن التفوق الدراسي؟
• إنني أتناقش معه في كل أموره وهو لا يُخفي عني شيئًا ونحن الاثنان متفقان على مبدأ الإقناع،
والحمد لله أن أصبح عموري في طريقه ناجحًا فائقًا، وكلما كبر، زادت استشاراته وأنا أعطيه من خبراتي.
• كيف يحدث هذا؟! إنه فتى حديث الخبرة بالحياة، ولا بد من أن تفرض عليه الصواب، حتى لا ينحرف أو يضله أو يغرر به أحد.
• أبدًا لن يحدث هذا إن شاء الله تعالى؛ فعموري يزداد فهمًا للحياة يومًا بعد يومٍ، بل إنني أصبحت أستفيد من أفكاره أحيانًا،
بالإضافة إلى أنني أفتخر به وبأخلاقه وتفوقه.
• ما تقوله هذا غير معقول، فما الذي سوف تأخذه من طفل حَدَثٍ لا يمتلك من خبرات الحياة شيئًا؟!
• يا أبا إياد، إن إعطاء الأطفال الفرصة للتعبير عن آرائهم يؤثر إيجابًا في نشأتهم؛ ألا تذكر قصة عبدالله بن الزبير
عندما واجه عمر بن الخطاب بكل جرأة وهو في السادسة من عمره؛ حيث فرَّ الصبية
عندما رأوا عمر بن الخطاب وثبت هو في شجاعة، ولما سأله عمر بن الخطاب:
• لماذا لم تذهب مع الأطفال؟
رد قائلًا مقولته المشهورة:
• ليست الطريق ضيقة؛ حتى أوسعها لك ولست جانيًا حتى أخاف منك.
لم يكمل إياد قراءة الرسالة؛ حيث سمع صوتًا زلزل كيانه، وألقى في قلبه الرعب وفعل به ما فعل؛ إنه صوت أبيه الذي استيقظ من نومه،
واتجه إلى غرفة حاجاته وأشغاله؛ ولم يستطع إياد أن يهرب من الغرفة؛ فاستسلم لنظرات أبيه،
وتوقع أن تبتلعه تلك الأذرع التي طالما أحاطت به؛ وتلك الأيدي التي طالما صفعته، وتلك الأرجل التي طالما ركلته؛ وانتفض لصوت أبيه:
• ماذا تفعل عندك يا ولد؟
نظر إياد وقد انعكس خوفه على وجهه؛ فكساه سوادًا؛ وقال لأبيه بطريقة لا إرادية:
• أريد أن أكون مثل عموري.
كتم الأب غيظه لأول مرة؛ وقال بعد لحظات تفكير:
• وهل منعتك؟ وهل عموري يعبث بأشياء والده؟
رد إياد والخوف ما زال يسيطر عليه:
• أنا أقلدك، فأنت دومًا تبحث في أشيائي؟
• أنا أخاف عليك من الانحراف.
• لو سألتني عن شيء لكنت أخبرتك.
• إذًا ابدأ، وأنا سوف أساعدك.
• هل تتفاهم معي بهدوء مثل والد عموري.
• نعم، سوف أفعل ذلك.
• حسنًا خذ، هذه أقلامك اختلستها منك.
• بل هي هدية مني لك يا إياد.
نظر إياد في دهشة واقترب من أبيه وألقى نفسه في أحضانه دون أن يشعر، فامتزجت دموع الكبير والصغير، وانصرف حسن، وهو يقول:
• سوف أرد الهدية، يا أبي، سوف أردها إن شاء الله.
خرج إياد، وهو لا يصدق أن والده عفا عنه، وأواه في صدره؛ فانتابته حالة من
الدهشة والفرحة، والخوف من تراجع أبيه عن مثل هذه المعاملة،
أما الأب فجلس ينتظر ضيفيه، وقد طلب من إياد أن يجلس معهما لأول مرة في مثل هذه اللقاءات.
أخذته نوبة من التفكير؛ ثم قرر وبدأ القراءة عن تربية الأبناء في شبكة الإنترنت؛ فبرز له حديث أبي هريرة:
أنَّ الأقرعَ بنَ حابسٍ أبصَرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يُقَبِّلُ الحَسَنَ، فقال: إنَّ لي عَشَرةً مِن الولَدِ ما قبَّلتُ واحِدًا
منهم،
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّه مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ))؛ [متفق عليه].
وقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ،
وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى
النَّاسِ رَاعٍ،
وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ
بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ
بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ،
وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
لم يتمالك الأب نفسه عندما قارن بين مبادئ التربية الراسخة في ذهنه، وبين ما يقرأ الآن؛ وما زاد من عجبه أن ما قرأه ليس بجديد عليه!
وبينما هو على حاله إذ وصل ضيفاه، فاستقبلهما، ثم استدعى إياد ليكون
رابعهم، ودار حديث شائق؛ حيث أزال الأب بحديثه كل مخاوف إياد التي راودته،
أما عموري وأبوه فحكى كل منهما من حياتهما قصصًا طرب لها إياد، وأخذ يُفكر في قصة جميلة
من قصص الأبناء الملتزمين الفائقين المواظبين على قراءة وحفظ القرآن، وأداء
الصلوات في المسجد؛ لينفذ في أيامه المقبلة بأمر ربه؛ ليرد هدية أبيه.
الجمعة، 11 أغسطس 2023
أطفال لا يريدون الكذب
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق