وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل التي لا تهدأ عنده غريزة الجدال،
بل تظل ثائرة لأتفه الأمور ويشتد في خصومته، ويجادل حتى
يجادل خصمه ويقهره بأنه والعياذ بالله الأبغض إلى الله، فعَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
( إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلدّ الْخِصَم )
(متفقٌ عليه).
وقد توعَّد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذي يُصِرُ على
الجدال في الباطل رغم عِلمه به، قال صلى الله عليه وسلم:
( ومن خاصم في باطل وهو يعلمه؛ لم يزل في سخط الله حتى ينزع )
(رواه أبو داود وصحَّحه الألباني)،
ويدخل في الوعيد المحامي الذي ينوب عن المبطل وهو يعلم أنه مبطل.
إن ما سبق من نصوص يتعلق بالنوع المحظور؛ أما النوع المباح
الذي يشيع بين العامة فقد رغّب النبى صلى الله عليه وسلم في تركه،
لأنه من دواعي الفطرة فيثقل على النفس تركه، كذلك جاء الترغيب في
تركه من باب درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح، ولأنه يعلم أنه
صنو الضلال والانحراف، قال صلى الله عليه وسلم:
( أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا )
(رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة).
- قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم الوقاية على العلاج، واستأصل
الداء قبل نشؤه، وحل المشكلة قبل وقوعها.
- ولما كان هذا هو شأن الجدال والمِراء، فقد تجنَّب السلف الخوض فيه،
وحذَّروا منه، وورد عنهم آثار كثيرة فيه، نذكر بعضًا منها:
- قال ابن عباس رضي الله عنهما:
كفى بك ظلمًا ألا تزال مخاصمًا، وكفى بك إثمًا ألا تزال مماريًا.
- وقال ابن عباس لمعاوية رضي الله عنهما:
هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابي؟
قال: وما تصنع بذلك؟ أَشْغَبُ بك وتشغب بي، فيبقى
في قلبك ما لا ينفعك، ويبقى في قلبي ما يضرك.
قال الحسن البصري رحمه الله
-إذ سمع قوماً يتجادلون-:
هؤلاء ملُّوا العبادة، وخفَّ عليهم القول، وقلَّ ورعهم فتكلموا.
وقال ابن أبي الزناد رحمه الله: ما أقام الجدلُ شيئًا إلا كسره جدلٌ مثله.
وقال الأوزاعي رحمه الله:
إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل.
وقال الصمعي رحمه الله:
سمعت أعرابيًا يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلَّتْ كرامته،
ومن أكثر من شيء عُرِف به .
وأخرج الآجُرِيُّ بسنده عن مسلم بن يسار رحمه الله أنه قال:
إياكم والمِراءَ، فإنه ساعةُ جهل العالِم، وبها يبتغي الشيطان زلته.
وأخرج أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال:
من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
كان أبو قلابة رحمه الله يقول:
لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم! فإني لا آمن أن يغمسوكم
في الضلالة، أو يلبِسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم.
جاء رجل إلى الحسن رحمه الله فقال: يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك
في الدين، فقال الحسن:
أما أنا فقد أبصرتُ ديني، فإن كنت أضللتَ دينك فالتمسه .
كان عمران القصير رحمه الله يقول: إياكم والمنازعة والخصومة،
وإياكم وهؤلاء الذين يقولون: أرأيت أرأيت.
دخل رجلان -من أهل الأهواء- على محمد بن سيرين رحمه الله،
فقالا: يا أبا بكر، نُحدِّثك بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من
كتاب الله عز وجل؟ قال: لا، لتقومن عني أو لأقومنَّه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق