والأصل في الجدال أنه مذموم لورود أكثر الآيات في ذمِّه إلا في الثلاثة السابقة،
ومنها نستخلص سمات وشروط الجدال المباح وهي:
- أن يرجى من المجادل عدم العناد واتباع الهوى، بل تبدوا
- عليه أمارات التجرد وعلامات التعقل، أما المعاندين المكابرين فجدالهم
مذموم محظور،
{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}
بعنادهم وإصرارهم على الباطل. وإذا الخصمان لم يهتديا
سُنَّةَ البحثِ عن الحق غبر
- أن يكون الجدال بالتي هي أحسن من الرفق ولين الجانب وعدم
التعالي والغرور، وإلا كان مذموماً، لأنه سيؤل
إلى مفاسد عظيمة وأضرار بالغة.
-
أن يكون عن علمٍ وبصيرةٍ بموضوع الجدال، وإلا كان ممقوتًا وكان
شره مستطيرًا، وسيأتي بيانه إن شاء الله،
{فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}.
- أن يكون موضوعه ذو قيمة وأن يبتغي من طرحه للحوار جدوى
وفائدة عامة، كدفع ضرر شديد أو استجلاب خير وفير، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم:
( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )
(رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ والدارمي، وصحّحه الألبانى في المشكاة).
- أن يبحث في جوهر الأمور ولا يتطرَّق إلى ثناياها، وأن يكون في
صلب الموضوع ولا يحيد إلى النقاط الفرعية،
{إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا}.
وهذا هو الحوار البناء الذي يخاطب العقل ويلتمس الإقناع،
ويتمثّل في الدعوة إلى الله وائتلاف قلوب العباد وترغيبهم في
الخير وفضائلة، وتنفيرهم من الشر وغوائله، والأمر بالمعروف بمعروف،
والنهي عن المنكر بلا منكر، والحض على فعل الواجبات واجتناب المنهيات،
قال تعالى:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
[النحل من الآية:125].
ويشيع هذا النوع في الأوساط العلمية؛ بين العلماء بعضهم البعض،
وبين الدعاة وبين أهل الديان الأخرى، ويتخذ من المنهج المقارن
أسلوباً له، وغالبًا ما يكون في المسائل العقدية والعلمية.
ومن سمات هذا النوع أن صاحبه يبحث دائمًا عن نقاط الاتفاق
ويبني عليها، ولا يركز على مواطن الخلاف ليُقيم عليها،
فتتسع الفجوة وتزداد الهوة وينشأ التنافر،
بما يفضي في النهاية إلى الكراهية والخصام.
والأخير:
المذموم وهو الذي يغلب على أصحابه حب النفس واتباع الهوى من
أجل إشباع غريزة الحاجة إلى الظهور والتميز عن الآخرين، فيغلب
عليهم التعصب الأعمى ويسيطر عليهم الغضب، مما يفضي في النهاية
إلى المنازعة والمخاصمة، وربما أدّى إلى أسوأ من ذلك.
ويشيع هذا النوع بين عامة الناس وبسطائهم الذين لم يحصّلوا قدرًا
كافيًا من العلم والثقافة، فما أن يطرح أحدهم موضوعًا ما إلا ويسارع
المحيطين بإدلاء آرائهم وطرح أفكارهم، وبنفس السرعة يتحول الحضور
إلى فريقين مؤيد ومعارض، ويسير الجدال في مثل هذه الظروف في
عدة مراحل من السيئ إلى الأسوأ:
- يحاول كل طرف أن يثبت تفوقه وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ،
وأن رأى الطرف الآخر خطأ لا يحتمل الصواب.
- إن كان في الجلسة أكثر من اثنين تحول الأمر إلى فوضى، كما لو
كانت سوقًا مملؤًا بالصخب والضجيج، حيث يتسابق الجميع إلى الكلام
ومن ثم تعلوا الأصوات وتتداخل.
- إن لاح لأحد الطرفين أن نظيره أقوى حجة منه وأبين دليلًا منه؛
سارع بالنيل من الآخر والتجريح في شخصه، والتقليل من شأنه،
بسخرية واستهزاء، محاولاً صرف الأنظار بعيدًا عن الموضع حتى
يتسنى له الظهور عليه. أما الطرف المستهان به فلن يرضخ لمثل ذلك،
فتراه تارةً يدفع عن نفسه وأخرى يهاجم الآخر بمثل صنيعه.
وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله؛ بعض صور الجدال المذموم التي
ربما تغيب عن أذهان البعض، حيث قال:
فإن قلت: لا بد للإنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق