غصون رمضانية ( 028 – 030 )
عبدالله بن عبده نعمان
يوشك الصائم أن ترحل عنه دوحة رمضان، ويذهب عن رُوحه رَوحُها المنعش،
ونسيمها السَّجسج، وبردُ العيش تحت أفنانها الظليلة،
ولكن بركاتها ما برحت تمدّ إليه غصونَ الخير إلى آخر لحظات زمانها السعيد.
فهي كالغيث خيرٌ كله مقبلاً ومدبراً، وكرحيق الجنة لذيذُ الأوائل والأواخر.
فمن الهدايا التي يُتحَف بها أهلُ رمضان على مشارف توديعه: صدقةُ الفطر.
والصائم الصادق لا يشبع من جنى هذا الشهر الكريم –
خصوصًا ما زخر به آخره - وخيرات الدنيا قد تعظم أوائلها وتضعف أواخرها،
لكن شهر رمضان عظيم كله، بل إن أواخره خير من أوائله؛
حتى يبقى المسلم على ترقٍّ في مدارج النشاط والجد؛
حتى يحوز جوائز الإكرام عند الختام وهو على وتيرة مستقيمة لم تنحدر إلى منعطفات الفتور.
كما أن المؤمن يحرص على خواتم الأمور؛ طلبًا للقاء الله على أحسن الأحوال،
وأرقى الأعمال، فربما فاجأه الموت وهو في آخر ساعات رمضان.
تأتي صدقة الفطر في أعقاب صيام رمضان فرضًا على كل مسلم صغير وكبير،
وذكر وأنثى، حاملةً في ثناياها الخيرَ اللازم والخير المتعدي،
فلكي لا يفوت المسلمَ والمسلمين هذا الخيرُ الخاص والعام جعل الشرع
إخراجَه فرضًا لازمًا على من ملك قوت ليلة العيد ويومه.
هذا العبادة الكريمة تجيء كالختم على صحيفة رمضان التي ستُرفع
إلى الله تعالى، وهذا الختم يقوم بعملية تطهير لصحيفة الأعمال مما يكدرها
من اللغو والرفث، فتصعد إلى الله تعالى مشرقة بعد أن صُقلت بهذا التطهير،
وتأتي كذلك تعبيراً عن شكر العبد لله تعالى على توفيقه له لفعل الخير
في شهر الخير، فكما أن الله تعالى أحسن إليه بذلك
فهو يحسن إلى إخوانه المسلمين الذين شاركوه في عبادة الله،
فيعطيهم شكراً لله وإحسانًا إليهم، ورحمة بهم، وحبًا في إسعاد غيره كما أسعده الله تعالى،
فتحمل السعادة على أجنحتها المعطي والآخذ.
وتعطي هذه العطية الواجبة المؤمنَ المسابق للخيرات قبل غيره درسًا
في ترك الشموخ إلى الزهو بالطاعة، والنظرِ من ذلك المكان العالي
إلى الناس العصاة أو المقصرين بعين الاحتقار،
فصومه وإن كان في الدرجات العلا من السلامة فإنه يحتاج إلى مطهِّر
يجبر نقصه؛ لأنه قد تحصل منه الغفلات والخطيئات؛
وحينما ننظر إلى جنس ما يُخرج ومقداره نلاحظ أنه نُظر فيه
إلى أهمّ ما يحتاجه الإنسان لإقامة حياته الجسدية، وهو الغذاء الذي لا بقاء
للبدن بدونه، وغالب الناس لديهم الغذاء-وإن تفاوتوا في مقاديره وأصنافه-؛
فلهذا كان الأمر بالإخراج مما يقتات؛ لكونه من الضروريات التي تحفظ به
حياة هذه الأبدان التي تقوم عليها عبادة الله، ولو فاتت مع ذلك الحاجيات والكماليات.
ثم إن هذا الواجب هو على من ملك قوت ليلة العيد ويومه،
فمن لم يكن له ذلك فلا وجوب عليه؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها،
وضرورة المرء ومن يعول مقدمة على غيره، ولكن لو ملك مقدار فطرة
نفس واحدة من الأسرة فإنه يجب عليه إخراجها؛
حتى يصح في حقه وصف العادم للزيادة عن قوت ليلة العيد ويومه،
كما أن المبادرة إلى إخراج ذلك القليل ولو عن نفس واحدة يشعر بنزول
هذه العبادة في قلبه منزلة عظيمة لا ترضى بالمنع واحتقار القليل؛
إذ لا يجد إلا جهده، وفيه رسالة غير مباشرة لأصحاب الطَول تدعوهم
إلى عدم البخل في إخراج عن هذا الحق.
وفي إخراج ما زاد على قوت اليوم والليلة درس إيماني مضمونه:
أن على المسلم أن يكون يقينُه واطمئنانه في أمر رزقه على ما عند الله،
وليس على ما عنده، فإعطاؤه ما زاد على قوت ليلة العيد ويومه صورةٌ
من صور التوكل على الغني الرزاق سبحانه وتعالى.
ومن تأمل في مقدار ما يخرج يجده شيئًا زهيداً لا تبخل به النفوس الكريمة،
غير أنه لا تستغني عنه النفوس المعوزة، فمتى تعددت صِيعانُ الإنفاق
سقط طغيان الإملاق.
وفي اختيار صنف المساكين دون بقية مصارف الزكاة نظرة دقيقة
إلى كون حاجة المساكين إلى القوت أكثر من بقية الأصناف،
وهي حاجة مستمرة، خصوصًا أن غالب الناس يقفون عن طلب الأرزاق يوم العيد،
فمن مراعاة المشاعر أن يجعلوا مشاركين للأغنياء في فرحة العيد وهمْ في أمن غذائي.
واختيار وقت الفضيلة لإخراج هذه الصدقة-وهو بعد صلاة فجر يوم العيد
ليبدأ المسلم يومه بطاعة الله تعالى المتعدية التي تدخل السرور
على أخيه المسلم مبكراً حينما تقطر مزنةُ الإحسان من أيدي الباذلين
فتنبِت أزهارَ الابتسامة في وجوه المحتاجين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق