ما أحبُّ أن أرجع..
قال أبو الوليد بن هشام بن يحيى الكناني: غزونا أرض الروم، وكنا
نتناوب الخدمة والحراسة، وكان معنا رجل يقال له: (سعيد بن الحارث)
قد أعطي حظًا من العبادة، لا تراه إلا صائمًا، أو قائمًا، أو ذاكرًا لله،
أو قارئًا للقرآن، فكنت أعاتبه على كثرة اجتهاده، وأقول له: أرفق
بنفسك.. فكان يقول: «يا أبا الوليد، إنما هي أنفاس تُعَدُّ، وعمر يفنى،
وأيام تنقضي، وما ننتظر إلى الموت..».
قال أبو الوليد: فنام سعيد بن الحارث يومًا في خباء، وأنما في الحراسة.
فسمعت كلامًا داخل الخباء، فدخلته.. فإذا بسعيد يتكلم في منامه
ويضحك!!.. ويقول وهو نائم: «ما أحب أن أرجع.. ما أحب أن أرجع»!!
ثم مد يده اليمنى وكأنه يتناول شيئًا.. ثم ردها إلى صدره ردًا رفيقًا
وهو يضحك.. ثم وثب من نومه يرتعد.. فأتيته، واحتضنته إلى صدري
وهو يلتفت يمينًا وشمالاً حتى سكن.. ثم جعل يهلل ويكبر ويحمد الله.
فقلت له: مالك يا سعيد؟ ما شأنك؟! وحكيت له ما رأيت من حاله
في المنام.. فقال: يا أبا الوليد، أسألك بالله أن تكتم علي ما أحدثك به
ما دمت حيًا.. فأعطيته العهد ألا أخبر بحديثه ما دام حيًا.. فقال لي:
يا أبا الوليد.. رأيت في منامي هذا كأن القيامة قد قامت.. وخرج العباد
من قبورهم.. شاخصة أبصارهم.. ثم أتاني رجلان لم أر مثلهما قطُّ حسنًا
وكمالاً.. فقال لي: يا سعيد بن الحارث، أبشر: .. أبشر.. فقد غفر الله ذنبك،
وشكر سعيك، وقبل منك عملك.. فانطلق معنا حتى نريك ما أعد الله
لك من النعيم المقيم.. والرضوان العظيم..
قال سعيد: فانطلقت معهما على خيل كالبرق الخاطف، حتى أتينا إلى قصر
عظيم، لا يقع الطرف على أوله ولا آخره ولا ارتفاعه.. كأنه نور يتلألأ..
فانفتح لنا، فإذا فيه من الحور الحسان.. ما لا يصفه واصف.. فإذا بهن
يقلن: هذا ولي الله! جاء حبيب الله! مرحبًا بولي الله!!
قال: فسرنا حتى انتهينا إلى مجالس ذات أسرة من ذهب، مكللة بالجواهر،
وإذا على كل سرير جارية حسناء لا أستطيع وصفها.. وفي وسطهن
حوراء عالية عليهن.. يحار في حسنها الطرف.. ووثب الجواري نحوي
بالترحيب والحفاوة، كما يصنع أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم..
فأخذنني، وأجلسنني إلى جانب تلك الحوراء.. وقلن لي: هذه
هي زوجتك، ولك مثلها معها!!
قال سعيد: فقلت لها: أين أنا؟!
قالت: في جنة المأوى.
قلت: من أنت؟
قالت: أنا زوجتك الخالدة.
قلت: فأين الأخرى؟!
قالت: في قصرك الآخر.
قلت: فإني أقيم عندك الليلة.. ثم أتحول إلى تلك في غدٍ.. ومددت يدي
نحوها.. فردتها إلى صدري ردًا رفيقًا.. وقالت: أما اليوم فلا..
إنك راجع إلى الدنيا..
فقلت: ما أحب أن أرجع.. ما أحب أن أرجع!!
فقالت: لابد، وستقيم ثلاثًا.. ثم تفطر عندنا في الثالثة إن شاء الله..
ثم قامت وتركتني.. فقمت لقيامها فزعًا مبهورًا!
قال أبو الوليد: ويأتي اليوم الأول بعد هذه الرؤيا.. فيقوم سعيد
بن الحارث.. ويغتسل.. ويمس طيبًا.. ويصبح صائمًا.. ثم أخذ يقاتل العدو
إلى الليل.. والناس يعجبون من إقحامه نفسه في المهالك.. وفي اليوم
الثاني يصنع صنيعه بالأمس.. حتى إذا أتى اليوم الثالث.. قام فاغتسل
وتطيب وأصبح صائمًا.. ثم شرع في القتال.. كأشجع ما يكون الرجال..
حتى إذا أوشكت الشمس للغروب.. رماه أحد الأعداء بسهم في نحره..
فسقط صريعًا إلى وجهه..
قال أبو الوليد: فأسرعت إليه، وابتدرته.. وأنا أقول: يا سعيد، هنيئًا لك
ما تفطر عليه الليلة!! يا ليتني كنت معك!! قال: فأوما إلي بطرفه.. وعض
شفته السفلى وهو يضحك.. يذكِّرني ما عاهدته عليه من الكتمان.. ثم نظر
إلى السماء.. وتبسم.. وهو يقول: «الحمد لله الذي صدقنا وعده»..
فوالله ما تكلم بكلمة غيرها حتى مات..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق