لم يفتأ كتاب الله عزَّ وجلَّ يبثُّ في قلب المؤمن
وروحه هذا الشُّعور العظيم،
الشُّعور بالعِزَّة المستمدَّة من عِزَّة هذا الدِّين
وقُـوَّته،
والمسْتَلْهَمة من آيات كتابه وتعاليمه،
عِزَّةٌ تجعله يترفَّع عن كلِّ ما من شأنه أن يَحُطَّ
من قدره،
أو يُرْغِمه على إعطاء الدَّنيَّة في
دينه.
ففي العديد من آيات الكتاب الكريم، ينبِّه المولى
-تبارك وتعالى
على هذه القضيَّة، والتي ينبغي على المؤمن أن يجعلها
نُصْب عينيه،
فلا يغفل عنها، ولا يتساهل
بها؛
لأنَّ الإسلام إنَّما جاء بالعِزَّة لأتباعه
والرِّفعة لأوليائه.
وقبل أن نشْرَع في ذكر الآيات التي تحثُّ على صفة
العزة وتدعو إليها،
نذكر قول ابن الجوزي وهو يتحدَّث عن العِزَّة في
القرآن، فيقول:
ذكر بعض المفسِّرين أنَّ العِزَّة في القرآن على
ثلاثة أوجه:
أحدها: العَظَمَة
ومنه قوله تعالى في سورة الشُّعراء:
{ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ
الْغَالِبُونَ }
[ الشُّعراء:44 ]
وفي
ص:
{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
}
[ ص: 82 ]
والثَّاني: المنْعَة
ومنه
قوله تعالى في سورة النِّساء:
{ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }
[ النِّساء: 139 ]
والثَّالث: الحَمِيَّة
ومنه
قوله تعالى في سورة البقرة:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ
الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ }
[ البقرة: 206 ]
وفي
سورة ص:
{ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
}
[ ص: 2 ]
قال الله تبارك وتعالى:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
جَمِيعًا }
[ فاطر: 10 ]
أي: من كان يَوَدُّ أن يكون عزيزًا في الدُّنْيا
والآخرة،
فليلزم طاعة الله تعالى، فإنَّ بها تُنَال العِزَّة؛
إذْ لله العِزَّة فيهما جميعًا .
ويقول الشِّنقيطي:
[ بيَّن -جلَّ وعلا- في هذه الآية الكريمة: أنَّ من
كان يريد العِزَّة،
فإنَّها جميعها لله وحده، فليطلبها منه، وليتسبَّب
لنيلها بطاعته -جلَّ وعلا-
فإنَّ مَنْ أطاعه، أعطاه العِزَّة في الدُّنْيا
والآخرة ]
وهذه الحقيقة كفيلة -حين تستقرُّ في القلوب- أن
تبدِّل المعايير كلَّها،
وتبدِّل الوسائل والخطط أيضًا! إنَّ العِزَّة كلَّها
لله،
وليس شيء منها عند أحد سواه، فمن كان يريد العِزَّة،
فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره. ليطلبها
عند الله،
فهو واجدها هناك، وليس بواجدها عند أحد، ولا في أي
كَنَف،
ولا بأي سبب فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا
.
وقال الله تبارك وتعالى:
{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
}
[ المنافقون: 8 ]
وهنا
يضمُّ الله -سبحانه- رسوله والمؤمنين إلى جانبه،
ويُضْفِي عليهم من عِزَّته، وهو تكريم هائل، لا
يكرِّمه إلا الله !
وأي تكريم بعد أن يُوقِف الله -سبحانه- رسوله
والمؤمنين معه إلى جواره،
ويقول: ها نحن أُولاء! هذا لواء الأعزَّاء
.
وقال الله تبارك وتعالى:
{ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ
الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا }
[ النِّساء: 139 ]
قال ابن كثير:
[ أخبر تعالى بأنَّ العِزَّة كلَّها لله وحده لا شريك
له، ولمن جعلها له.
كما قال في الآية الأخرى:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
جَمِيعًا }
[ فاطر: 10 ]
وقال
تعالى:
{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ
}
[ المنافقون: 8 ]
والمقصود من هذا التَّهْيِيج على طلب العِزَّة من
جناب الله،
والالتجاء إلى عبوديَّته، والانتظام في جملة عباده
المؤمنين،
الذين
لهم النُّصْرَة في هذه الحياة الدُّنْيا، ويوم يقوم الأشهاد
]
ويقول الطَّبري:
[ فإنَّ الذين اتخذوهم -أي المنافقين- من الكافرين
أولياء ابتغاء العِزَّة عندهم،
هم الأذلَّاء الأقلَّاء، فهلَّا اتَّخذوا الأولياء من
المؤمنين،
فيلتمسوا العِزَّة والمنْعة والنُّصْرَة من عند الله
الذي له العِزَّة والمنْعَة،
الذي
يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، فيُعِزُّهم
ويمنعهم ]
وقال الله تبارك وتعالى :
{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
}
[ آل
عمران: 139 ]
في هذه الآية الكريمة أدب قرآني عظيم،
وتوجيه ربَّانيٌّ كبير للثُّلَّة المؤمنة المجاهدة
والصَّابرة،
يحثُّهم فيه على عدم الهَوَان الذي ينافي العِزَّة
ويضادُّها،
ويُنْهِيها ويقضي عليها.
فهو أمرٌ للمؤمنين بالثَّبات على عِزَّتهم، حتى في
الأوقات العصيبة؛
لتبقى العِزَّة ملازمة لهم، لا تنفكُّ عنهم في
الضرَّاء والسَّرَّاء،
في
الفرح والحزن، في الحرب والسِّلم، في النَّصْر
والهزيمة.
يقول الفَخْر الرَّازي:
[ كأنَّه قال: إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية،
علمتم أنَّ أهل الباطل، وإن اتَّفقت لهم الصَّولة،
لكن كان مآل الأمر إلى الضَّعف والفُتور، وصارت دولة
أهل الحقِّ عالية،
وصَوْلة أهل الباطل مُنْدَرِسة، فلا ينبغي أن تصير
صَوْلَة الكفَّار عليكم يوم أُحد
سببًا لضعف قلبكم ولجُبْنكم وعجزكم، بل يجب أن يَقْوى
قلبكم،
فإنَّ الاستعلاء سيحصل لكم، والقُوَّة والدَّولة
راجعة إليكم ]
قال الله -تبارك وتعالى-:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ
مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ
أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ
اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
}
[ المائدة: 54 ]
في هذه الآية الكريمة يُبيِّن الله -تبارك وتعالى-
أنَّ العِزَّة على أهل الكفر،
هي صفة من صفات جيل التَّمْكين، الذين أحبَّهم الله
وأحبُّوه،
وارتضاهم بديلًا عمَّن يرتد عن دينه،
وبالمقابل فهم أذلَّة في تعاملهم مع إخوانهم من أهل
الإيمان،
يَخْفِضُون لهم الجناح تواضعًا، ويلينون لهم
القول.
يقول الشِّنقيطي في أضواء البيان :
[ أخبر تعالى المؤمنين -في هذه الآية الكريمة- إنَّهم
إن ارتدَّ بعضهم،
فإنَّ الله يأتي -عوضًا عن ذلك المرتد- بقوم، من
صفاتهم:
الذُّل للمؤمنين، والتَّواضع لهم، ولين الجانب،
والقسوة والشِّدَّة على الكافرين، وهذا من كمال صفات
المؤمنين ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق