كنت أعتني بـجدتي المريضة في أيامها الأخيرة، كنت أنام بقربها،
حكت لي معظم تفاصيل حياتها،
في كل مرة كانت تدعو لي بأن يرزقني الله بابن الحلال الذي سأعيش معه عزيزة،
كما عاشت هي مع جدي رحمه الله،
مرة تجرّأتُ وقلت لها:
جدتي، لتكن دعوتك بأن يكون نصيبي هذا الذي في بالي....
ابتسمت قائلة : لي دعوات كثيرة مستجابة من فضل الله وكرمه،
فهل أنتِ تريدينه حقاً ؟؟
بدون تردد أجبتها :
ولا أريد غيره.... دعت لي جدتي وأسهبت في الدعاء والتوسل
حتى أنني بدأت أتخيل أن دعواتها قد استجيـبت.
كان أبي يناديني زهرة الحياة، فأنا ابنته الوحيدة، رعايته لي كانت تثير
غيرة إخوتي الأربعة بدرجات متفاوتة ، وكانت حسناء ابنة جيراننا هي
الأخت والصديقة، فمعها كانت طفولتي ومعها بدأت رحلتي الدراسية
ومعها أمضي ساعات طويلة من أوقات عطلتي. أيامها كان الجيران أهل
بكل ما في هذه الكلمة من معنى، والدة حسناء – الخالة أم جميل – امرأة
قوية صارمة تحب الحق وتدافع عنه برجولة ربما شخصيتها هذه كانت
سر صداقتها مع والدتي التي غالباً ما نراها هادئة لا تتخذ أي قرار مهما
صغُرت بساطته قبل الرجوع إلى والدي.
غاب جميل شقيق حسنا أكثر من سنتين في تأدية خدمة العلم كنت خلالهما
قد حصلت على شهادتي الثانوية، شاركنا جيراننا فرحتهم بعودة جميل
وشاركونا فرحتنا بنجاحي بمعدلي العالي،
لكننا، جميل وأنا لم
في هذا الصباح تتحدث الخالة أم جميل إلى والدتي وأنا أعد لهما القهوة
لتستمر أحاديث الصباح التي بدأت منذ سنوات وليس لها نهاية،
أسمعها تقول لأمي : _ والله يا أختي ، ابني جميل ينوي الهجرة إلى كندا
وقد حصل على التأشيرة، لكنني أريد أن أزوجه قبل أ ن يسافر في المساء
تحدثت أمي إلى أبي قائلة: كانت هنا أم جميل صباحاً وحدثتني عن
هجرة ابنها إلى كندا وتريد تزويجه قبل السفر، كانت من خلال حديثها
تجس نبضنا لتعرف إن كنا نوافق على زواجه بابنتا....
أجابها أبي بحزم ليقطع هذا الحديث نهائياً:
_ بالتأكيد لا نوافق، إنهم عائلة ممتازة وجميل شاب يعجبني جداً
لكن إلى الغربة لانوافق، إن فتحتْ لك الموضوع ثانية أعطها
جواباً قطعياُ بالرفض.
وهذا ما حصل بالفعل إلى أن جاءتنا يوماً الخالة أم جميل مبتهجة بعثورها
على عروس لابنها فيها كل المواصفات التي يريدونها مع موافقة أهلها
على موضوع الهجرة. كانت حسناء تواسيني في كل مرة تحدثني عن
ما يجري من أمور التجهيز لحفلة الزواج ، وفي كل مرة تقول لي ، لكنني
أحبك أكثر، لكنني كنت سأكون في قمة السعادة لوكنت أنت ....
نحن جيران منذ زمن بعيد ونحن بالطبع من أول المدعوين إلى حفلة
الزواج التي تقام في بلدنا على طريقتنا، حفلة للرجال وأخرى منفصلة
للنساء، لا أدري لماذا أرادت أمي أن أكون بأبهى حلتي ، فقد جهزتني
بالزينة واللباس وأسرفت في ذلك، ربما كانت تريد تعويضي عن حزن
ما بداخلي شعرتْ به، فقلب الأم يعلم عن الأبناء مالا يعلمونه هم عن
أنفسهم. وبالفعل كنت سعيدة وشعرت ببهاء وسرور. وقبل خروجي من
البيت وقفت أمام المرآة لأتأكد من أنني على الشكل الذي طالما تمنيته،
لكني لمحت صورة أخرى ، صورة كانت مخيّلتي قد رسمتها لنفسي
عندما كانت جدتي تبتهل إلى الله أن يكتب لي السعادة مع الرجل
الذي أتمناه.....
عندما دخلتُ صالة الأفراح
انتابني شعور غريب وأنا أنظر إلى تلك التجهيزات التي من شأنها أن
تجعل حفل الزفاف حفلاً فاخراً كل الأمور تسير على ما يرام امتلأت الصالة
مضى حين من الوقت والسعادة الظاهرة تغمر الجميع وحان موعد وصول
العروس،
وبدأت تتردد تلك الكلمة بالهمس أحياناً وبالاشارات أحياناً أخرى:
أين العروس.....أين العروس
كانت الحفلة قد تجاوزت منتصفها عندما حصلت بلبلة كبيرة ، فالعروس
لم تأتِ وعلى ما يبدو أنها لن تأتي، أرى أمي تقف بجانب الخالة أم جميل
وتحاول تهدئتها حديث قصير دار بين هاتين الصديقتين
جاءتا بعده إليَّ على عجل تسألاني :
_هل تقبلينه يا ابنتي ؟
هل ترضين أن تكوني أنتِ عروسنا اليوم ؟؟
لا شك أن المفاجأة كانت شديدة وقد صنعت لي اختلاطاً كبيراً في المشاعر،
شعرتْ حسناء بما يدور في خاطري فأظهرت فرحتها الشديدة وتأييدها
المطلق فنقلوني إلى غرفة خاصة ليسمعوا إجابتي،
همستْ أمي:
ابنتي إن كنت موافقة فسأستدعي والدك للتحدث إليه، فقلت لهن :
فليأت جميل أولاً.
فهمت الخالة أم جميل مقصدي فاستدعت ابنها الذي كان ينتظر خارجاً
وطلبت منه أن يُسمعني تلك الكلمات التي سترفع من معنوياتي وتدفعني
للموافقة،
جاء جميل وقبل أن يتكلم بادرتُ بسؤاله :
هل أنت حقاً تريدني يا جميل، أم أنها....
قاطعني جميل قائلاً:
والله كـُنتِ أنتِ اختياري الأول اسأليها
والتفتَ إلى حسناء طالباً العون،
حسناء ، الأخت والصديقة والرفيقة، أجابتْ بعبارة واحدة :
جميعنا كنا نعتقد بأنكِ خير عروس لأخي.....
بدموع الفرح والرضا راحت أم جميل تقبل والدتي، تعانقها وتقول لها:
جاء دورك لتقنعي والد العروس ، كل شيء جاهز وأنتِ تعلمين يا أختي
أن وعدي كوعد الرجال، ستكون ابنتك سعيدة أنا متأكدة ، أنا التي ربيت
جميلاً وأنا واثقة من ذلك ، جاء دورك أن تقنعي والدها...سأخرج إلى
الناس لأعلن استمرار الحفل وأن العروس قادمة فهكذا سنكسب مزيداً
من الوقت لتقومي بدورك. خرجت الجارتان وعادتا بعد نصف ساعة
تقريباً وبعودتهما استدعاني أبي ليسألني :_ ابنتي هل أنت موافقة ؟
الشيخ ينتظرني لنعقد القران ....الصمت ، وهل لي إلا الصمت
_ حسناً يا ابنتي هل لك شروط ؟؟
_ لا يا أبي ، شرطي الوحيد هو رضاك عني
بنظرات استغراب ودّعني أبي على عجل قائلاً: مبروك يا ابنتي....
في الفترة الأولى من زواجنا أصاب جميل بعض الملل من حديثي الوحيد
الذي كنت أكرره له يومياً حتى قال لي مبتسماً : والله حفظته عن ظهر
قلب. كنت أحدثه كل يوم عن قصتي مع جدتي وعن دعوة جدتي
المستجابة. مضى على هذا العرس أكثر من ثلاثين عاماً، عشت مع جميل
أياماً جميلة. كوّنا أسرة صغيرة ، لا يشوب سعادتها إلا أننا في الغربة
لكنني لازلت لاأدري كيف تحدثت أمي إلى أبي وحصلت على موافقته،
أهو حق الجيرة الذي يجعل الجار بمنزلة الأخ ؟؟ وربما أكثر.....
أحكي لكم شيئاً من ذكرياتي
وأنا أحتضن حفيدي جميل الصغير ...... أداعبه، وأدعو له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق