حوار مع دينار
رأيت فقيراً مقطعّ الثياب، كبيراً بالسن، تبدو عليه آثار
الجوع والعطش.
رأيته مستلقياً على عتبة البنك، وقد استغرق في نوم عميق،
وكانت أشعة الشمس تدنو منه قليلاً قليلا حتى وصلت إلى صدره،
وهو لا يشعر بحرارتها.
وقفت عنده أنظر إليه وأتأمله، وأقول في نفسي:
سبحان الله! إن بين هذا الفقير وخزينة المال بضعة أمتار،
إننا والله نعيش في عالم المتناقضات .
أدخلت يدي في جيبي، فأحسست بحركة غريبة فيه، أمسكت به
فعرفت أنه دينار .
فقلت له: لماذا تتحرك في جيبي؟
الدينار: أنا في جيبك منذ زمن بعيد، وأنت لم تحسن معاملتي
وفق هدف وجودي.
قلت: وما هدف وجودك يا دينار؟!
الدينار: الإنفاق على أهلك ووالديك وعيالك، وقضاء حاجتك
وحوائج المسلمين، من تفريج كربة، وإعانة مدين،
وتوسعة على يتيم، وغيرها من وجوه البر والخير.
قلت: كيف جئت إليّ يا دينار؟!
الدينار: إن لي قصة طويلة، فقد انتقلت بين أيدٍ كثيرة،
فالأول اشترى بي عقارا، والثاني اشترى بي خمرا، والثالث دفعني
رشوة لآخر، والرابع اشترى منك بضاعة فوصلت إليك،
وكل هؤلاء كانوا عبّاداً للمال، ولا أعرف عنك أي شيء بعد.
قلت: وكيف علمت أن هؤلاء هم عبّاد المال؟
الدينار: من طريقة تعاملهم معي، فإنهم كانوا لا ينفقونني
في طاعة الله فتذكرت قول الحسن البصري رحمه الله:
لكل أمة وثن يعبدونه، وصنم هذه الأمة الدينار والدرهم ،
وأنت يا صاحبي إن لم تصرفني في وجوه الخير فسأحرقك باسمي.
قلت مستغرباً: تحرقني باسمك؟!! وكيف ذلك؟!!
الدينار: إن أول اسمي دين ليذكرك بحقوق دينك عليّ،
وآخر اسمي نار ليحرقك إن كنزتنى أو أنفقتني بالحرام
فتأمل قول الله تعالى
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ... بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ
لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }.
قلت: إن كلامك هذا خطير يا دينار!
الدينار: نعم فأنا نعمة على من يصرفني بالخير ونقمة على من
يستمتع بي بالحرام!! وانتبه لهذا الفقير الذي أمامك فادفعني إليه
لأكون شاهداً لك يوم القيامة إن شاء الله،
وليكن لديك مشاعر مثل مشاعر التابعي (سفيان بن عيينه) رحمه الله
عندما سأله فقيرا فبكى، فسئل ما يبكيك فقال: أي مصيبة أعظم
من أن يؤمّل فيك رجل خيراً فلا يصيبه
قلت: سبحان الله، إنه لشعور رقيق جداً.
الدينار: هكذا فكن، واستغل مواسم عمرك، ولا تفرط في شبابك حتى
يضاعف الله أجرك.
قلت: وهل هناك فرق بين من يتصدق في شبابه أو في هرمه؟
الدينار: نعم فقد جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله:
( أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح
تخشى الفقر).
يعني صحيح البدن ومعنى شحيح أي بخيل لأن الشاب غالبا يريد
أن يحتفظ بالمال لنفسه.
قلت: والله لقد فتحت عليّ أبواباً كانت مغلقة، فشكرا لك يا دينار.
الدينار: المهم أن لا تكون عبدا للدينار، فكم من شخص صرعته
ببريقي، وأهمس بأذنك قائلا أن تهتم بزوجتك وولدك
وأهلك فلا تبخل عليهم، لأن كل دينار تنفقه عليهم تنال فيه أجرين،
أجر الإنفاق وأجر الرحم والقرابة، ولا تنس المحتاج ومن يعاني
الجوع والبرد والفقر حتى تنال رضا الله ومحبته،
والآن ادفعني إلى هذا الفقير الذي أمامك حتى يحبك الله،
وحتى أكون سببا في إطفاء غضب الله عليك كما قال
عليه الصلاة والسلام
(إن الصدقة لتطفئ غضب الرب).
قلت: حسناً، ثم جلست بقرب الفقير، ووضعت يدي على صدره،
وقلت له: يا هذا.. يا هذا.. فقام فزعاً وفتح عينيه.
فقلت له: لا تخف إني رجلٌ محسن، وهذا دينار فخذه ليعينك على
نوائب الدهر، فنظر إلي مستغربا ثم ابتسم وأخذ بيده الدينار
فقبض عليه قبضة قوية ونظر بعينيه إلى السماء،
فابتسم وانتهت القصة التي تخيلتها وأنا أشاهد فقيرا
على نائما على الأرض.
د. جاسم المطوع
رأيت فقيراً مقطعّ الثياب، كبيراً بالسن، تبدو عليه آثار
الجوع والعطش.
رأيته مستلقياً على عتبة البنك، وقد استغرق في نوم عميق،
وكانت أشعة الشمس تدنو منه قليلاً قليلا حتى وصلت إلى صدره،
وهو لا يشعر بحرارتها.
وقفت عنده أنظر إليه وأتأمله، وأقول في نفسي:
سبحان الله! إن بين هذا الفقير وخزينة المال بضعة أمتار،
إننا والله نعيش في عالم المتناقضات .
أدخلت يدي في جيبي، فأحسست بحركة غريبة فيه، أمسكت به
فعرفت أنه دينار .
فقلت له: لماذا تتحرك في جيبي؟
الدينار: أنا في جيبك منذ زمن بعيد، وأنت لم تحسن معاملتي
وفق هدف وجودي.
قلت: وما هدف وجودك يا دينار؟!
الدينار: الإنفاق على أهلك ووالديك وعيالك، وقضاء حاجتك
وحوائج المسلمين، من تفريج كربة، وإعانة مدين،
وتوسعة على يتيم، وغيرها من وجوه البر والخير.
قلت: كيف جئت إليّ يا دينار؟!
الدينار: إن لي قصة طويلة، فقد انتقلت بين أيدٍ كثيرة،
فالأول اشترى بي عقارا، والثاني اشترى بي خمرا، والثالث دفعني
رشوة لآخر، والرابع اشترى منك بضاعة فوصلت إليك،
وكل هؤلاء كانوا عبّاداً للمال، ولا أعرف عنك أي شيء بعد.
قلت: وكيف علمت أن هؤلاء هم عبّاد المال؟
الدينار: من طريقة تعاملهم معي، فإنهم كانوا لا ينفقونني
في طاعة الله فتذكرت قول الحسن البصري رحمه الله:
لكل أمة وثن يعبدونه، وصنم هذه الأمة الدينار والدرهم ،
وأنت يا صاحبي إن لم تصرفني في وجوه الخير فسأحرقك باسمي.
قلت مستغرباً: تحرقني باسمك؟!! وكيف ذلك؟!!
الدينار: إن أول اسمي دين ليذكرك بحقوق دينك عليّ،
وآخر اسمي نار ليحرقك إن كنزتنى أو أنفقتني بالحرام
فتأمل قول الله تعالى
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ... بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ
لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }.
قلت: إن كلامك هذا خطير يا دينار!
الدينار: نعم فأنا نعمة على من يصرفني بالخير ونقمة على من
يستمتع بي بالحرام!! وانتبه لهذا الفقير الذي أمامك فادفعني إليه
لأكون شاهداً لك يوم القيامة إن شاء الله،
وليكن لديك مشاعر مثل مشاعر التابعي (سفيان بن عيينه) رحمه الله
عندما سأله فقيرا فبكى، فسئل ما يبكيك فقال: أي مصيبة أعظم
من أن يؤمّل فيك رجل خيراً فلا يصيبه
قلت: سبحان الله، إنه لشعور رقيق جداً.
الدينار: هكذا فكن، واستغل مواسم عمرك، ولا تفرط في شبابك حتى
يضاعف الله أجرك.
قلت: وهل هناك فرق بين من يتصدق في شبابه أو في هرمه؟
الدينار: نعم فقد جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله:
( أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح
تخشى الفقر).
يعني صحيح البدن ومعنى شحيح أي بخيل لأن الشاب غالبا يريد
أن يحتفظ بالمال لنفسه.
قلت: والله لقد فتحت عليّ أبواباً كانت مغلقة، فشكرا لك يا دينار.
الدينار: المهم أن لا تكون عبدا للدينار، فكم من شخص صرعته
ببريقي، وأهمس بأذنك قائلا أن تهتم بزوجتك وولدك
وأهلك فلا تبخل عليهم، لأن كل دينار تنفقه عليهم تنال فيه أجرين،
أجر الإنفاق وأجر الرحم والقرابة، ولا تنس المحتاج ومن يعاني
الجوع والبرد والفقر حتى تنال رضا الله ومحبته،
والآن ادفعني إلى هذا الفقير الذي أمامك حتى يحبك الله،
وحتى أكون سببا في إطفاء غضب الله عليك كما قال
عليه الصلاة والسلام
(إن الصدقة لتطفئ غضب الرب).
قلت: حسناً، ثم جلست بقرب الفقير، ووضعت يدي على صدره،
وقلت له: يا هذا.. يا هذا.. فقام فزعاً وفتح عينيه.
فقلت له: لا تخف إني رجلٌ محسن، وهذا دينار فخذه ليعينك على
نوائب الدهر، فنظر إلي مستغربا ثم ابتسم وأخذ بيده الدينار
فقبض عليه قبضة قوية ونظر بعينيه إلى السماء،
فابتسم وانتهت القصة التي تخيلتها وأنا أشاهد فقيرا
على نائما على الأرض.
د. جاسم المطوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق