قال ابن رجب:
طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينيَّة كالعلم والعمل والزهد،
فهذا أفحش من الأول وأقبَح وأشدُّ فسادًا وخطرًا؛ فإنَّ العلم والعمل
والزهد إنما يطلب به ما عندَ الله من الدرجات العُلَى والنعيم المُقِيم
والقرب منه الزُّلفَى لديه .
قال سفيان الثوري:
إنما فُضِّل العلم لأنه يُتَّقَى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء .
وكان أبو سليمان الداراني يَعِيب على مَن لبس عباءةً وفي قلبه شهوةٌ
من شهوات الدنيا تُساوِي أكثر من قيمة العباءة.
وقد ثبَت في (صحيح مسلم)
عن أبي هريرة رضِي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
( إنَّ أوَّل خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة ثلاث، منهم العالم الذي
قرأ القرآن ليُقال: قارئ، وتعلَّم العلم ليُقال: عالم، وإنه يُقال له:
قد قيل ذلك، وأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ).
وعن علي رضِي الله عنه قال:
يا جماعة العلم، اعمَلوا به؛ فإنما العالم من عمل بما علم، فوافَق عمله
علمه، وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يُجاوِز تراقِيَهم يُخالِف علمهم عملهم،
ويُخالِف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلَقًا فيُباهِي بعضهم بعضًا،
حتى إنَّ الرجل ليغضَب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه،
أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله
(رسالة ذم المال والجاه- ابن رجب ص [20]).
وكان بديل العقيلي يقول:
مَن أراد بعلمه وجهَ الله تعالى أقبَل الله عليه بوجهه، وأقبَل بقلوب
العِباد عليه، ومَن عمل لغير الله صرَف الله وجهَه عنه، وصرف قلوبَ
العباد عنه .
وقال محمد بن واسِع: إذا أقبَل العبد بقلبه على الله أقبَل الله عليه بقلوب المؤمنين .
كما ذكر ابن رجب كلامًا جميلاً في إحدى رسائله قال:
إنَّ في الدنيا جنةً معجلة، وهي معرفة الله ومحبَّته، والأنس به والشوق
إلى لقائه، وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدلُّ على ذلك، فمَن دلَّه علمُه
على دخول هذه الجنَّة المعجلة في النار فاز بالجنة في الآخرة .
ولهذا؛ كان أشد عذاب في الآخرة لعالم لم ينفعه الله بعلمه، وهو من أشدِّ
الناس حسرةً يوم القيامة؛ حيث كانت معه آله يتوصَّل بها إلى أعلى
الدرجات وأرفع المقامات، فلم يستَعمِلها إلا في التوصُّل إلى أخسِّ الأمور
وأدناها وأحقَرها، فهو كمَن كان معَه جواهرُ نفيسة لها قيمة عظيمة،
فباعَها بعبرةٍ أو شيء مُستَقذَر لا ينفع به، فهذا حالُ مَن يَطلُب الدنيا بعلمه،
بل أقبَح من ذلك مَن يطلبها بإظهار الزهد فيها، فإنَّ ذلك خداع قبيح جدًّا .
اهـ.ولقد كان نبيُّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم يطلب الاستِعاذة
من العلم الذي لا ينفَع، وسؤال العلم النافع؛ ففي (صحيح مسلم)
عن زيد بن أرقم رضِي الله عنه أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول:
( اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع،
ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستَجاب لها )
(رواه مسلم).
ومن حديث جابرٍ رضِي الله عنه أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول:
( اللهم إني أسالك علمًا نافعًا، وأعوذ بك من علمٍ لا ينفع )
(أخرجه ابن حبان والطبراني في الأوسط).
وطلب العلم النافع له علاماتٌ وصفاتٌ فلا بُدَّ من الوقوف عليها؛ حتى
يعرف طالب العلم الطريق الصحيح ولا ينحَرِف عنها.والعلم النافع كما
قال ابن رجب رحمه الله:
العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنَّة وفهْم
معانيها، والتقيُّد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في
معاني القرآن والحديث، وفيما ورَد عنهم من كلامٍ في مسائل الحلال
والحرام والزهد والرقائق والمعارف، وغير ذلك .
ومَن وقَف على هذا وأخلَصَ القصدَ فيه لوجه الله عز وجل واستَعانَ عليه،
أَعانه وهَداه، ووفَّقه وسدَّده، وفهَّمه وألهمه، وحينئذ يُثمِر
هذا العلم ثمرته الخاصَّة به، وهي خشية الله،
قال تعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
[فاطر:28].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق