المسوِّفون إلى أين؟
يضيع عمر الإنسان ما بين آفات ثلاث، ما بين انتظار وتسويف وتمنٍّ، وكل
واحدة من هذه الآفات مصيبة إذا انفردت، فكيف بها إذا اجتمعت في كيان
إنسان ما خُلق إلا لغاية جليلة ورسالة سامية عظيمة!
إنها في اجتماعها تكون كما النار تشتعل في الهشيم في يوم شديد الحرارة،
فتجعل من عمره كما العصف المأكول.
ولما يترتب على التسويف من فوات للفرص وضياع للعمر كان لا بد من
وقفة مع هذه الآفة التي لا يكاد ينجو منها إلا من رحم الله، و"سوف":
كلمة معناها التنفيس والتأخير، قال سيبويه: "سوف كلمة تنفيس فيما لم
يكن بعد، ألا ترى أنك تقول سوّفته إذا قلت له مرة بعد مرة سوف أفعل،
وقولهم فلان يقتات السوف أي يعيش بالأماني"، فيكون أمر المسوّف قائماً
على المماطلة وتأخير الأعمال.
ونغفل عن حقيقة أن أيامنا في هذه الحياة قصيرة وإن طالت، بل تمضي بنا
سراعاً، والعمر كما العِقد إذا انفرط منه حبة تبعتها باقي حباته، ونحن في
غفلة عنه وفي ذهول عما يصير إليه، ننشغل عن يومنا بترقب الغد الآتي،
ونؤجل أعمال الساعة للساعة التي تليها، فيمضي اليوم والساعة فلا اغتنمنا
وقتناً ولا أنجزنا أعمالنا، فنروح تحت أثقال الواجبات المتراكمة ليصبح هذا
حالنا الذي اعتدناه، فنندم لكن في وقت لا نفع للندم فيه، فيخبرنا الله في كتابه
العزيز عن حال هؤلاء، فيقول جل شأنه:
{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}
[سورة المنافقون: آية10]،
جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "كل مفرّط يندم عند الاحتضار، ويسأل
طول المدة ولو شيئاً يسيراً، يستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات! كان ما كان،
وأتى ما هو آت، وكل حسب تفريطه" (تفسير ابن كثير)، ويقول جل شأنه:
{حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا
تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100(}
[سورة المؤمنون]،
فهذا حال المفرّط بأمر الله، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا؛ ليصلح
ما أفسد ويتدارك ما فات.
وفي غفلة الإنسان عن وقته وعمره ينسى أنه مسؤول منذ بلوغه عن كل
صغيرة وكبيرة في عمره الذي آتاه الله، فتظل معالم الطفولة من لهو ولعب
مصاحبة له وإن شاب وشاخ، إلا أنّ صفائحه مشرّعة تحصي أنفاسه ودقات
قلبه، فكم أضعنا من سنوات أعمارنا ونحن نلهث وراء حلم وردي من تحقيق
هدف وظيفي، أو تعليمي، أو اجتماعي، وفي حمأة هذا الصراع المحموم
شغلتنا الدنيا الزائلة عن الحياة الباقية، ويأتي الوقت الذي نعضّ فيه على
أناملنا ندماً، ونرجو بل نتمنى أن نعطى فرصة أخيرة نقدم فيها لتلك الحياة
التي طالما أشغلتنا عنها الأماني وكان التسويف الشماعة التي نعلق عليه
أعمالنا، فيقول تعالى:
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ(23)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)} [سورة الفجر]،
وفي وصف آخر لمن أضاع فرص الحياة من بين يديه يقول ربنا:
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
[سورة الزمر: آية58].
كم أضعنا من سنوات أعمارنا ونحن نلهث وراء حلم وردي من تحقيق هدف
وظيفي، أو تعليمي، أو اجتماعي، وفي حمأة هذا الصراع المحموم شغلتنا
الدنيا الزائلة عن الحياة الباقية
ومجمل المآسي التي نمر بها إنما يعود غالبها لربط أعمالنا وواجباتنا
بالتسويف الذي نغرق فيه، فكم من مقتدر عاجلته المنية وهو يؤجل فريضة
الحج لعام تلو عام! وكم من فتاة سوفت في حجابها بحجة أنها في مقتبل
عمرها! وكم فرائض وفرائض ضيعناها بحجة أننا في مقتبل العمر! وما زال
الوقت في اتساع، فيدركنا الوقت وإذ بنا أمام آية قرآنية طالما سمعناها
ورتلناها وما وَعيناها حتى نتنفسها ندما وحسرة:
{حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [سورة المؤمنون: آية99]،
وأنّى لك يا مسكين ذلك وقد سبق السيف العذل، وقد غفلت عن قول ربك:
{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [سورة المؤمنون، آية100].
أين كانت وصايا ومواعظ نبيك وهو من رحمته بك قد نبّهك لذلك منذ قرون؛
حيث قال صلى الله عليه وسلم:
(اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك
قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) (رواه الحاكم) ،
فأين كنت وقت البذر والزرع؟! أترجو أن تحصد مما لا تزرع، وهل تراك
رأيت بأمّ عينيك كسولاً ينجح! أم نائماً عن المسير قد وصل وجهته وبلغ
غايته؟!، أما سمعت وتفكرت بدعاء نبيك الكريم:
(اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)(رواه البخاري)،
والمراد بالكسل كما بيّنه ابن حجر: "الكسل ترك الشيء مع القدرة على
الأخذ في عمله" (فتح الباري)، وهل التسويف إلا كسل وتوان عن القيام
بالأمر؟! فالحياة لا تؤخذ تراخياً ولا تهاوناً، إنما هي فرصة لن تتكرر عليك
اغتنامها بل اقتناصها.
ولما في التسويف من خطر، فقد حذّر منه العلماء الأفاضل والصالحون،
فقد جاء في إحياء علوم الدين: "قال لقمان لابنه: يا بني، لا تؤخر التوبة،
فإن الموت يأتي بغتة، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين
خطرين عظيمين أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي، حتى
يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو. الثاني: أن يعاجله المرض أو الموت،
فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو"، فالتعويل على رحمة الله ومغفرته من
أسباب التسويف، ويحذر "ابن الجوزي" من هذه الآفة قائلاً: "فلو حضر
العقل لحذّر من آفات التأخير، فربما هجم الموت ولم تحصل التوبة"
(صيد الخاطر).
ومما يدفع الإنسان للتسويف وتأخير الأعمال وتأجيلها إنما هو طول الأمل
الذي نمنّي به أنفسنا، ويعلّق "ابن الجوزي" في كتابه "صيد الخاطر" على
ذلك: "يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعداً، ولا يغترر
بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان،
ولهذا يندر من يكبر، فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً، وإنما يقدم
المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل، وتبادر الشهوات، وتنسى الإنابة
لطول الأمل".
فبادر بالعمل ولا تعوّل على الغد، فما يدريك لعلك لا تبلغ الساعة التالية،
واغتنم رياحك إذا هبّت ولا تخمدها بتسويفك العاجز، واجعل من نفسك جذوة
عمل متقدة، فمعالي الأمور لا تنال براحة ولا بتأجيل الأعمال، وأنّى لعابر
سبيل وغريب ديار راحة يركن إليها وهو يدرك يقيناً أنّ الرحل مرتحل، أتراك
يا مسكين لو كان تأجيل عملك يؤخر من درجة في وظيفة دنيوية أو مركز
اجتماعي أكنت تقبل تأجيله؟! كلا، بل كنت تواصل الليل والنهار، وتسابق
الغمام والزمان في سبيل تحقيق ما تصبو إليه، ودار إليها تسير وفيها مقامك
وبقاؤك لهي أولى بوقتك وفكرك وجهدك وبذلك ونشاطك، وإلا لكنت
من النادمين الخاسرين.
اللهم الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق