الأمل .. صناعة استراتيجية
هذه الصناعة قد لا يحسنها ولا يدرك أهميتها إلا القليل، رغم أنها تشبه
الهيكل الفولاذي الذي يحمي الأمم والأفراد من التهاوى والتهدم، لذا كان
أعظم السياسيين براعة هو من يبني جسور الأمل فوق بحور اليأس، ومن
يحول ظلمات النفوس إلى مشاعل تضيء الطرقات للنهوض من الكبوات،
ومن ينسج من خيوط اليأس الواهية أطواقا للنجاة.
أكبر القتلة!
تشير الإحصاءات أن أكثر من ثمانمائة ألف يلقون حتفهم سنويا نتيجة
الانتحار، ووفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية، يموت شخص كل
(40 ثانية) منتحرًا، ومقابل كل شخص منتحر يوجد أكثر من (20) شخصًا
حاولوا الانتحار لكن تم إنقاذهم، ويحفل موقع “يوتيوب” بالكثير من مآسي
الانتحار، وتشير الإحصاءات أن الانتحار هو ثاني أسباب الوفاة في الفئة
العمرية بين (15) إلى (29) عاما، أي الفئة الحالمة في بني الإنسان، وهي
فئة الشباب، التي من المفترض أن تكون مليئة بالأمل مفعمة بحب الحياة،
لذلك كان الأديب فيكتور هوجو يقول:” أكبر القتلة هو: قاتل الأمل”.
الرؤية القرآنية حاربت اليأس بكل ما تملك من أدوات، فجعلت اليأس قرينا
للكفر، وخلقت الرجاء الرحيب أما النفوس القانطة، وبشرت البائسين بالفرج
القريب في الدنيا أو الثواب الكبير في الآخرة، ومنحت جرعات الصبر لكل
متألم ومظلوم، وحذرت من الاستسلام لليأس، قال تعالى:
{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
يرسم القرآن الكريم صورة لذلك الإنسان اليائس الظان أنه لن يجد نصرا
في الدنيا والآخر، فيخاطبه القرآن الكريم خطابا زاجرا بأن يمدد بسبب
(أي بحبل) من السماء إلى الأرض ويضع فيه رقبته ثم يقطع هذا الحبل، وبعد
ذلك يتفكر هل ذهب غيظه! بالتأكيد لم ولن يتغير شيء بانتحاره الأثيم، جاء
في تفسير “في ظلال القرآن” عن تلك الآية الكريمة “والذي ييأس في الضر
من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في الفرج،
ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب
والبلاء..وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب،
ومضاعفة الشعور به”.
ولعل هذا ما جعل الفكر الإسلامي السياسي يهتم بالأمل، ويعتبره إحدى
وظائف الدولة الاستراتيجية التي لا يصح التقصير فيها أو إهمالها، فتحدث
“الماوردي” في كتابه “الأحكام السلطانية” مؤكدا أن صلاح الدنيا يتلخص
في ستة أشياء، هي: الدين المتبع، والسلطان القاهر، والعدل الشامل، والأمن
العام، والخصب الدائم، والأمل الفسيح.
والأمل الفسيح صناعته تتطلب من الدولة أن ترسم المستقبل زاهرا واسع
الأفق، وتعلن أن الأيام القادمات محملة بالخيرات والبركة والنماء، فالأمل
يعين الشعوب على تحمل المشاق والتعب والصدمات، ويجعلها تحلم بالغد
وآماله، بل تحب الحياة وتحرص على الاستمرار فيها، لذا فصناعة الأمل
لا يقوم بها إلا ذوو النفوس الكبيرة من المصلحين والدعاة والزعماء، الذين
يرون أن أنوار الأمل لا تكسرها صخور الحياة، والأمل في الغد حياة جديدة
لكل مظلوم وبائس.
ويلاحظ أن كثيرا من الفلسفات والمذاهب قتلت الأمل في النفوس، وأغلقت
طاقات الرجاء التي تنظر منها الأمم على المستقبل، فكانت النتيجة انهيارات
مدوية، فالتجربة الشيوعية التي تبنت “كل حسب طاقته كل حسب حاجته”
قتلت الأمل وأماتت التنافس، وأفقدت الناس أحلامهم، وجعلت المجتمعات
لا تنظر إلا تحت نعليها باحثة عما يسد رمقها ويستر جسدها، فخمدت الهمم،
وتوارت روح التفاؤل بين الناس، وأصبح الناس يظنون أنهم لا يفترقون
شيئا عن الحيوان الذي يطعمه صاحبه وينتظر منه اللحم واللبن، بل إن بعض
الحيونات إذا فقدت الأمل في الحرية لم تتناسل وهي في الأسر رغم ما يتوفر
لها من غذاء، وفي الأثر” لَوْلا الأَمَلُ مَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَدًا، وَلا غَرَسَ غَارِسٌ
شَجَرًا “، فالأمل طاقة هادرة، وفقدانه عجز مقيت، وهو ما تنبه إليه الخليفة
العادل عمر بن عبد العزيز، فقال:”لو أن الناس كلما استصعبوا أمرا تركوه
ما قام للناس دنيا ولا دين” .
الأمل ثروة
الأمل وثيق الصلة بالاقتصاد، فالرؤى التشاؤمية في الاقتصاد حرضت الدول
على التخلص من مواطنيها بحجة أن الجوع قادم، وأن الخراب يسرع الخطى
إلى المجتمعات، ومن ذلك نظرية “مالتوس” ذلك الاقتصادي الانجليزي في
القرن التاسع عشر، الذي أكد أن السكان يتزايدون بنسبة أعلى بكثير من
الموارد، وأن الواجب على الحكومات القيام بالحلول المخيفة لإعادة التوازن
بين السكان والغذاء، ومن ذلك زيادة معدل الوفيات بين الفقراء، والتخلص
من الأطفال الذين يولدون فوق الحاجة، وأن تقدم الدول مساعدات لملك
الموت في مهمته في القضاء على الفقراء، كذلك أن تتوقف الدولة عن علاج
الأمراض حتى يزيد معدل الموت، وباختصار دعا “مالتوس” إلى إبادة
البسطاء والفقراء، ومضى “مالتوس” إلى حتفه، وتزايدت أعداد البشر،
وزادت رفاهيتهم واستهلاكهم، وقلت المجاعات، وزادت متوسطات الأعمار
في غالبية المجتمعات، وتبخر تشاؤم “مالتوس” مع إشراقات الآمال
في النفوس.
الأمل حماية للمجتمعات من الانكسارات وقت الهزائم، يقول الأديب
الفلسطيني “غسان كنفاني” الذي عانى مرارة اللجوء والغربة وقسوة
الحياة:” ولكنني كنت أعيش من أجل غد لا خوف فيه..وكنت أجوع من أجل
أن أشبع ذات يوم.. وكنت أريد أن أصل إلى هذا الغد..لم يكن لحياتي يوم ذاك
أية قيمة سوى ما يعطيها الأمل العميق الأخضر بأن السماء لا يمكن أن تكون
قاسية إلى هذه الحدود”، وفي تجربة “البوسنة والهرسك” في التسعينات
والتي تعرضت لحرب إبادة جماعية، وحوصت حصارا شديدا، فلم تجد إلا أن
تسمى النفق الذي يربط العاصمة “سراييفو” بالحياة ويكسر الحصار إلا باسم
“نفق الأمل”، بُني هذا النفق في ستة أشهر بطول ثمانمائة متر عام 1993،
وكان ممرها الوحيد إلى العالم الخارجي أثناء الحصار الذي استمر حتى
فبراير 1996، وبعد انتهاء الحرب تحول النفق إلى أهم مزار سياحي في
سراييفو، وكأنه يذكر الناس بالأمل، فأزمات الحصار جاء بعدها غد آمن
ورغيد، ففي فسحة الأمل فسحة في الحياة، وكم كان الفيلسوف الروماني ”
إميل سيوران” رائعا عندما قال:
” المزعجُ في اليأس أنّه بديهيّ ومُوَثَّق وذو أسباب وجيهة…
والآن أمعِنوا النظر في الأمل، تأمّلُوا سَخاءَهُ في الغشّ، رُسُوخَهُ في التدجيل،
رفضَه للأحداث: إنّه تيه وخيال، وفي هذا التيه تكمن الحياة ومن هذا الخيال
تتغذّى”، فـ” الأمل قوة الضعيف المستعصية على المقاومة”
كما يقول الشاعر محمود درويش.
هذه الصناعة قد لا يحسنها ولا يدرك أهميتها إلا القليل، رغم أنها تشبه
الهيكل الفولاذي الذي يحمي الأمم والأفراد من التهاوى والتهدم، لذا كان
أعظم السياسيين براعة هو من يبني جسور الأمل فوق بحور اليأس، ومن
يحول ظلمات النفوس إلى مشاعل تضيء الطرقات للنهوض من الكبوات،
ومن ينسج من خيوط اليأس الواهية أطواقا للنجاة.
أكبر القتلة!
تشير الإحصاءات أن أكثر من ثمانمائة ألف يلقون حتفهم سنويا نتيجة
الانتحار، ووفق إحصاءات منظمة الصحة العالمية، يموت شخص كل
(40 ثانية) منتحرًا، ومقابل كل شخص منتحر يوجد أكثر من (20) شخصًا
حاولوا الانتحار لكن تم إنقاذهم، ويحفل موقع “يوتيوب” بالكثير من مآسي
الانتحار، وتشير الإحصاءات أن الانتحار هو ثاني أسباب الوفاة في الفئة
العمرية بين (15) إلى (29) عاما، أي الفئة الحالمة في بني الإنسان، وهي
فئة الشباب، التي من المفترض أن تكون مليئة بالأمل مفعمة بحب الحياة،
لذلك كان الأديب فيكتور هوجو يقول:” أكبر القتلة هو: قاتل الأمل”.
الرؤية القرآنية حاربت اليأس بكل ما تملك من أدوات، فجعلت اليأس قرينا
للكفر، وخلقت الرجاء الرحيب أما النفوس القانطة، وبشرت البائسين بالفرج
القريب في الدنيا أو الثواب الكبير في الآخرة، ومنحت جرعات الصبر لكل
متألم ومظلوم، وحذرت من الاستسلام لليأس، قال تعالى:
{ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
يرسم القرآن الكريم صورة لذلك الإنسان اليائس الظان أنه لن يجد نصرا
في الدنيا والآخر، فيخاطبه القرآن الكريم خطابا زاجرا بأن يمدد بسبب
(أي بحبل) من السماء إلى الأرض ويضع فيه رقبته ثم يقطع هذا الحبل، وبعد
ذلك يتفكر هل ذهب غيظه! بالتأكيد لم ولن يتغير شيء بانتحاره الأثيم، جاء
في تفسير “في ظلال القرآن” عن تلك الآية الكريمة “والذي ييأس في الضر
من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في الفرج،
ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب
والبلاء..وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب،
ومضاعفة الشعور به”.
ولعل هذا ما جعل الفكر الإسلامي السياسي يهتم بالأمل، ويعتبره إحدى
وظائف الدولة الاستراتيجية التي لا يصح التقصير فيها أو إهمالها، فتحدث
“الماوردي” في كتابه “الأحكام السلطانية” مؤكدا أن صلاح الدنيا يتلخص
في ستة أشياء، هي: الدين المتبع، والسلطان القاهر، والعدل الشامل، والأمن
العام، والخصب الدائم، والأمل الفسيح.
والأمل الفسيح صناعته تتطلب من الدولة أن ترسم المستقبل زاهرا واسع
الأفق، وتعلن أن الأيام القادمات محملة بالخيرات والبركة والنماء، فالأمل
يعين الشعوب على تحمل المشاق والتعب والصدمات، ويجعلها تحلم بالغد
وآماله، بل تحب الحياة وتحرص على الاستمرار فيها، لذا فصناعة الأمل
لا يقوم بها إلا ذوو النفوس الكبيرة من المصلحين والدعاة والزعماء، الذين
يرون أن أنوار الأمل لا تكسرها صخور الحياة، والأمل في الغد حياة جديدة
لكل مظلوم وبائس.
ويلاحظ أن كثيرا من الفلسفات والمذاهب قتلت الأمل في النفوس، وأغلقت
طاقات الرجاء التي تنظر منها الأمم على المستقبل، فكانت النتيجة انهيارات
مدوية، فالتجربة الشيوعية التي تبنت “كل حسب طاقته كل حسب حاجته”
قتلت الأمل وأماتت التنافس، وأفقدت الناس أحلامهم، وجعلت المجتمعات
لا تنظر إلا تحت نعليها باحثة عما يسد رمقها ويستر جسدها، فخمدت الهمم،
وتوارت روح التفاؤل بين الناس، وأصبح الناس يظنون أنهم لا يفترقون
شيئا عن الحيوان الذي يطعمه صاحبه وينتظر منه اللحم واللبن، بل إن بعض
الحيونات إذا فقدت الأمل في الحرية لم تتناسل وهي في الأسر رغم ما يتوفر
لها من غذاء، وفي الأثر” لَوْلا الأَمَلُ مَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَدًا، وَلا غَرَسَ غَارِسٌ
شَجَرًا “، فالأمل طاقة هادرة، وفقدانه عجز مقيت، وهو ما تنبه إليه الخليفة
العادل عمر بن عبد العزيز، فقال:”لو أن الناس كلما استصعبوا أمرا تركوه
ما قام للناس دنيا ولا دين” .
الأمل ثروة
الأمل وثيق الصلة بالاقتصاد، فالرؤى التشاؤمية في الاقتصاد حرضت الدول
على التخلص من مواطنيها بحجة أن الجوع قادم، وأن الخراب يسرع الخطى
إلى المجتمعات، ومن ذلك نظرية “مالتوس” ذلك الاقتصادي الانجليزي في
القرن التاسع عشر، الذي أكد أن السكان يتزايدون بنسبة أعلى بكثير من
الموارد، وأن الواجب على الحكومات القيام بالحلول المخيفة لإعادة التوازن
بين السكان والغذاء، ومن ذلك زيادة معدل الوفيات بين الفقراء، والتخلص
من الأطفال الذين يولدون فوق الحاجة، وأن تقدم الدول مساعدات لملك
الموت في مهمته في القضاء على الفقراء، كذلك أن تتوقف الدولة عن علاج
الأمراض حتى يزيد معدل الموت، وباختصار دعا “مالتوس” إلى إبادة
البسطاء والفقراء، ومضى “مالتوس” إلى حتفه، وتزايدت أعداد البشر،
وزادت رفاهيتهم واستهلاكهم، وقلت المجاعات، وزادت متوسطات الأعمار
في غالبية المجتمعات، وتبخر تشاؤم “مالتوس” مع إشراقات الآمال
في النفوس.
الأمل حماية للمجتمعات من الانكسارات وقت الهزائم، يقول الأديب
الفلسطيني “غسان كنفاني” الذي عانى مرارة اللجوء والغربة وقسوة
الحياة:” ولكنني كنت أعيش من أجل غد لا خوف فيه..وكنت أجوع من أجل
أن أشبع ذات يوم.. وكنت أريد أن أصل إلى هذا الغد..لم يكن لحياتي يوم ذاك
أية قيمة سوى ما يعطيها الأمل العميق الأخضر بأن السماء لا يمكن أن تكون
قاسية إلى هذه الحدود”، وفي تجربة “البوسنة والهرسك” في التسعينات
والتي تعرضت لحرب إبادة جماعية، وحوصت حصارا شديدا، فلم تجد إلا أن
تسمى النفق الذي يربط العاصمة “سراييفو” بالحياة ويكسر الحصار إلا باسم
“نفق الأمل”، بُني هذا النفق في ستة أشهر بطول ثمانمائة متر عام 1993،
وكان ممرها الوحيد إلى العالم الخارجي أثناء الحصار الذي استمر حتى
فبراير 1996، وبعد انتهاء الحرب تحول النفق إلى أهم مزار سياحي في
سراييفو، وكأنه يذكر الناس بالأمل، فأزمات الحصار جاء بعدها غد آمن
ورغيد، ففي فسحة الأمل فسحة في الحياة، وكم كان الفيلسوف الروماني ”
إميل سيوران” رائعا عندما قال:
” المزعجُ في اليأس أنّه بديهيّ ومُوَثَّق وذو أسباب وجيهة…
والآن أمعِنوا النظر في الأمل، تأمّلُوا سَخاءَهُ في الغشّ، رُسُوخَهُ في التدجيل،
رفضَه للأحداث: إنّه تيه وخيال، وفي هذا التيه تكمن الحياة ومن هذا الخيال
تتغذّى”، فـ” الأمل قوة الضعيف المستعصية على المقاومة”
كما يقول الشاعر محمود درويش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق