الوقفة الثالثة:
إن وجود الجدة والجدة في البيت درس عملي للبر والإحسان، فالأحفاد
يرون بشكل مباشر ماذا يصنع الآباء بوالديهم، يسجلون المواقف
في ذاكرتهم، ويحللونها، ويوازنون بين أقوال الوالدين ـ في البِرِّ ـ
وأفعالهم، وكما تدين تدان، والحكايات التي تروى في هذا الشأن كثيرة، تعيد
المواقف نفسها، أو أصحابها يعيدونها !!
الوقفة الرابعة:
على الوالدين ألا يتفردا ببر الجدين، بل عليهما أن يشركا أولادهما
معهما في هذا الخير، ليوطنوهم على الإحسان إليهما، وحتى لا ينفروا
من خدمة الكبير التي في الغالب تحتاج إلى مهارة عالية في التعامل
والتمريض أيضًا، وحتى إذا صرفت الصوارفُ الأبناءَ عن برهم للجدين،
كان الأحفاد قد تمرسا على ذلك، فيقومون بهذا الدور الجليل.
الوقفة الخامسة:
وجود الجدة والجد في البيت، هو فرصة رائعة لنقل الخبراتِ المتوارَثةِ
والمتراكمةِ عبر الأجيال، واختصارٌ لمسيرة إرثها، في تدبير الأمور،
وإدارةِ الأزمات، والتعامل مع الشخصيات، والبيع والشراء، والعاداتِ
والتقاليد والأعراف، فالجدان شخصيتان مرتا على ظروف متنوعة،
فأكسبتهما الخبرةَ العميقة، وعلى الأولاد والأحفاد استثمارها وعدمُ
التفريط فيها، ويكون ذلك بالمخالطة والمجالسة والسفر والصحبة
في أزمنة وأمكنة وظروف مختلفة.
الوقفة السادسة:
الجدان في المنزل صمام أمان للتمسك بالسمت والفضائل والأخلاق
النبيلة، فلقد رأيت كم يهاب الأحفاد أجدادهم أكثرَ من والديهم ـ أحيانًا ـ
حينما يعزمون على فعلٍ تأباه القيم، وترفضه المروءة، وهذا باب
جليل القدر، لو تنبه له الوالدان فاستثمراه لفازا بثمره فوزاً عظيمًا،
وهو التكامل التربوي بينهما وبين أولادهما، ولا ينقص ذلك من
قدر الوالدين الأقربين مثقالُ ذرة أمام أولادهما، بل هي سلسلة
عتيدة يمسك بعضها بعضًا، ترث الفضيلة أبًا عن جد.
الوقفة السابعة:
الجدَّان..نور البيت، خيمة ظليلة على جميع أفراد الأسرة، بندائهما
تجتمع النفوس، وبراحبة صدريهما تأتلف القلوب، يتصدران
الإصلاح بين الأولاد وأحفادِهم في حال الخلاف، وبواقرهما يُربأ
الصدع، وتغلق أبواب الفرقة، وتموت الفتنة في مهدها،
فحياتهما امتداد للوصل، ونماء للأسرة، ولذلك يتوجب على الآباء
أن يربطوا بين جيل الأجداد والأحفاد، مساندة لدور أجدادهم،
بحيث ينسقوا اللقاءات الدورية الممتعة بينهم، بحيث لا يتخلف عنها
إلا ذو عذر، فمشاغل الحياة لو تركناها لعبثت بنا، ولفرقتنا،
وهذه اللقاءات الأسرية أثبتت نجاحها وآتت ثمرتها، وهي إرث حسن،
وفكرة إيجابية كريمة.
الوقفة الثامنة:
أدرك الجدان المعاصران حياة التقنية التي لفّتنا في ليلنا ونهارنا،
وفي نومنا وصحونا، والأولاد هنا يجب أن يدركوا أنه لا يصح أن
ننشغل بهذه التقنية في برامجها التواصلية المذهلة عن واجب الوصل
لأجدادنا، وخصوصًا حينما نكون بين أيديهم، وخصوصًا ـ أيضًا ـ
حينما يكونا في غربة واقعية عن تقنيتنا !! فكم يحزننا أن نرى
الأحفاد ناكسوا رؤوسهم عند أجهزتهم، هم في واد والجدَّانُ في
واد آخر، ثم يحسبون لأنفسهم الزيارة والبر والإحسان!
لقد أعجبتني تلك الجدةَ التي وضعت سلة بجانب الباب عند الدخول
عليها، وكتبت عليها:
(يا بني: ضع جوالك هنا..ثم تفضل بالدخول !)،
ليكون بكليته إلى محياها، فإما لي، وإلا فأنت في حلٍ من زيارتي،
هكذا كأنها تقول، ولله درها من جدة مربية، وإلا فأين أدب الإنصات
والإصغاءِ والقرب والإدناء، فكم دنت منك ومن أبيك وأمك!
فليس حقهما عليك البعدُ والانشغالُ والهِجران.
الوقفة التاسعة:
إن البيت الذي يعيش أفراده مع جدين، حتمًا سيرى أفراده كيف
هي دائرة الحياة العجيبة،
التي حكاها الله تعالى بقوله:
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }
، يرى الحفيد كيف سيؤول إلى هذا الضعف من بعد قوته فلا يطغى
بصحته وفتوته لأنه حتما إلى هذ المآل من الضعف والشكوى،
فيعود المرء كما بدأ،
{ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ }،
نعم..أفلا يعقلون، وهم يرون بأم أعينهم كيف ستدور عليهم الأيام
دورتها كما دارت على هذين الجدين الحبيبين، فتجعل من بعد
قوتهم ضعفًا وشيبة، ثم المآل إلى الله تعالى، فمرحلة الشيخوخة
لا تعقبها إلا الآخرة، فيا لها من عظة ما بعدها عظة.
الوقفة العاشرة والأخيرة:
كان الله في عون كل بيت عُمرت زواياه بالجدين الكريمين،
أو بأحدهما، ثم فجأة، غاب القمر، وغربت الشمس، أي خسوف
هذا الذي حصل، وأي كسوف حلّ! الذكريات، والحكايات، والابتسامات،
والنظرات الحنونات، رحلت، ورحَلتْ معها القلوب، ومضت،
وبقيت لنا الدعوات، فيا من ودع له جدة أو جدًا، تذكره بالاستغفار
والدعاء له بالرحمة والمغفرة، وبرِ أصحابه، والتصدقِ عنه،
واذكره بالخير، والعملِ بما أوصاك به من العمل الصالح، فإنَّ له مثل أجرك.
لقد رثا أخي د.محمود بن سعود الحليبي جدي
ـ رحمه الله ـ بأبيات تفيض شجى، اخترت منها:
جداه..جداه..واجداه جداه --- وحلّقتْ عن دنايا الأرضِ عيناهُ
واستعبرتْ بالأذانِ الحرِ مئذنةٌ --- كانت تسامره واليومَ تنعاهُ
وأقفرَ البيتُ بعد الشيخ وانطفأتْ --- أنوارُ أُنسٍ تنامت في زواياه
وراح جدي، ولاحتْ للغروب يدٌ --- تحثو على القبر تبرًا حين واره
مات الذي إن دنا منك امتلأتَ هدىً --- وإن نأى أسعدتْ جنبيك ذكراهُ
حياته صفحةٌ بالخير عاطرةٌ --- ليهنأ الموت، مِسْكًا قد وهبناه
وراح جدي وصاحتْ في النخيل أسى --- فسيلةٌ كم سقتها الحبَّ كفاه
لا..لا تلمها، فراق الشيخ قاصمةٌ --- ما أفظعَ البين يا خلي وأقساه
فارحم إلهي فقيدًا سُلَّ من دمنا --- واجعل جنانَك مثوانا ومثواه
أسأل الله تعالى أن يمد أعمار أجدادنا على الطاعة والصحة والعافية،
وأن يعيننا على برهم والإحسان إليهم، وأن يغفر لمن توفاه الله
منهم، فإن الله غفور رحيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى
آله وصحيه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق