موسوعة المؤرخين (52)
ابن خلدون .. مفخرة الإسلام (الجزء الثاني)
آراء ابن خلدون ومنهجه العلمي والفكري
منهجه العلمي
يقوم المنهج العلمي لابن خلدون على قاعدة أنَّ الواقع المادي هو موضوع
العقل في ظواهره المختلفة؛ فعندما قام بتحليل وتفسير الفتوحات الإسلامية
الكبرى خلال القرنين السابع والثامن استند إلى مفاهيمه العلمية التي تختلف
عن مفاهيم القديس أوغسطين الذي اعتبر أنَّ الأسباب العميقة لمجمل مظاهر
الحضارة القديمة تكمن في نظرات العناية الإلهية.
ومنهج ابن خلدون يقتضي أن يلتمس لكل شيء عِلَلَه وأسبابه؛ ويقوده
هذا الأمر إلى أن يرد سلسلة الأسباب والمسببات إلى عِلَّة أولى؛ وبذلك
نبرهن على وجود الله، ويتضمن هذا -كما يقول ابن خلدون- الاعتراف بعجز
الإنسان عن معرفة كل شيء معرفة عملية تجريبية، وعلى أن شعور الإنسان
بجهله في مواضع معينة هو نفسه ضَرْبٌ من العلم بلغة ذلك العلاّمة الكبير.
أفكار ابن خلدون
أشار باحثون عِدَّة في فكر ابن خلدون إلى ريادته في الإشارة إلى مسألتين
مهمتين تنبَّه إليهما الفكر الحديث، وهما:
أولاً: أن القيمة الاقتصادية للسلعة يحددها الجهد الإنساني العمالي المبذول
فيها، وليس مجرد قيمتها المادية. وهي مسألة انبنى عليها الفكر الاجتماعي
الحديث - الاشتراكي بخاصة - في دعوته إلى إنصاف العمال الذين يضيف
جهدهم إلى قيمة السلعة، وهي قيمة يستفيد منها الرأسماليون عادة. والواقع
أنه لم يصل إلى هذه الدعوة الصريحة لكنه اقترب كثيرًا
من مضمونها الفكري.
ثانيًا: أومأ ابن خلدون إلى شيء قريب من الفكرة القومية الجامعة، عندما
تحدث عن "دولة العرب"، ثم "دولة الفرس"، ثم "دولة الترك" في سياق
التاريخ الإسلامي. صحيح أنه بنى فكره في تفسير الاجتماع والتاريخ لدى
العرب على "العصبية القبلية" -وهو واقع لا يستطيع أي مفكر حقيقي
تجاهله- لكنه أشار أيضًا إلى أن تلك العصائب القبلية إذا تحالفت، خاصة
في ظل "دعوة دينية"، تستطيع أن تؤسس تحالفًا أوسع بينها يستند
إلى حقيقة كونها منتمية إلى "قوم" متميز من الأقوام.
إلا أن أهمية ابن خلدون وطرافة فكره، وإن تمثّلت في إيماءات فكريَّة تتخطى
عصرها كالفكرة الاقتصادية، والفكرة القومية؛ فإنه كان محدّدًا وواضحًا
في أفكار أخرى، ما زالت واقعًا لا يمكن إنكاره في حياتنا العربية الراهنة؛
ومن ذلك تحذيره من اشتغال رجال السلطة بالتجارة، ومنافستهم لأهل البلد
وتجّاره، بما يؤدّي إلى عرقلة الاقتصاد وتدميره، وانعكاس ذلك وبالاً على
الدولة نفسها في نهاية الأمر؛ يقول ابن خلدون: "إن التجارة من السلطان
مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية" .
كما لَخَّصَ رؤيته لآثار الاستبداد والتسلط بمقولته: "الظلم مُؤْذِنٌ بخراب
العمران"، ونبه إلى أن كثرة العصبيات ينذر بزوال الدولة: "إن الأوطان
الكثيرة العصائب، قلّ أن تستحكم فيها دولة".
وبالرغم من أنَّ عصر ابن خلدون كان عصرًا معاديًا للفلسفة في المجتمع
الإسلامي، وهو ما ينعكس في الفصل الذي عنوانه: "في إبطال الفلسفة
وفساد منتحليها"، فقد حوّل ابن خلدون عمل العقل من الانشغال
بالميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) إلى إعماله في شئون المجتمع والتاريخ
والعلم، أي إنزاله من السماء، فيما يتجاوزه من غيب، إلى واقع الأرض
، وما فيها من شواهد ومشاهدة.
ومن منطلق عقلانيته، انتقد السحر والطلسمات، وكتب في إبطال صناعة
التنجيم وضعف مداركها، وفساد غايتها، وعرض لعلم المنطق بحياد
موضوعي ولم يهاجمه، كما أنّ نقده للفلسفة الميتافيزيقية لم يصل لديه
إلى حَدِّ تحريمها، وإنما اكتفى بتنبيه من يريد الاطلاع عليها إلى الإلمام
بعلوم "الملة" من فقه وشرعيات .
إن التصالح الذي أقامه ابن خلدون بين نظرته المادية ونظرته الإيمانية شمل
الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية؛ فقد حاول بكل قواه إظهار التكامل
بين ما هو رُوحي وما هو مادي، بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي،
بين ما تقتضيه طبائع العمران، وبين ما تقرره المشيئة الإلهية.
ثناء العلماء على ابن خلدون
قال إيف لاكوست عن مؤلَّف ابن خلدون (المقدمة): "التحليل والتأليف
والبحوث التي حققها هذا المغربي العبقري في القرن الرابع عشر تساعدنا
اليوم على إجادة فهم القضية التي هي بلا ريب أوسع القضايا وأشدّها
مأساوية في عصرنا؛ ألا وهي التخلف" .
وقال كارّا دو فو: "إنَّ نزعة الاهتمام بالبحث في تاريخ النشوء والتطور
تضع ابن خلدون في مصافِّ أرقى العقليات في أوربا الحالية" .
ووصف كثير من الكتاب الغربيين سرد ابن خلدون للتاريخ بأنه أول سرد
علمي منهجي للتاريخ ، وهذا تقدير كبير عندهم.
دراسات عن ابن خلدون
كُتب عن ابن خلدون وفكره ومنهجه ونظرياته العمرانية والاجتماعية
وغيرها، مئات الكتب، منها:
- العمران البشري في مقدمة ابن خلدون: سفتيلانا باتسييفا.
- العلامة ابن خلدون: إيف لاكوست.
- السياسة والدين عند ابن خلدون: جورج لابيكا.
- فلسفه ابن خلدون الاجتماعية - تحليل ونقد: طه حسين.
- النظرية الإسلامية لابن خلدون دراسة مقارنة: محمد محمود ربيع.
- الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته: مصطفى الشكعة.
- ابن خلدون: عماد الدين خليل.
وفاة ابن خلدون
تُوُفِّي ابن خلدون بمصر سنة (808هـ= 1406م)، عن عمر يناهز (78) ،
ودفن في مقابر الصوفية عند باب النصر شمال القاهرة؛ فرحمه الله
رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
السبت، 12 يونيو 2021
موسوعة المؤرخين (52)
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق